اكثر من ٤٠ سنة تحت الحظر الشيوعي
كما روته يارميلا هالوڤا
الزمان: بعد منتصف الليل، ٤ شباط ١٩٥٢. المكان: شقتنا في پراڠ، تشيكوسلوڤاكيا. أيقظَنا القرع المتواصل لجرس الباب. ثم اندفعت الشرطة الى الداخل.
وضعتنا الشرطة امي، ابي، اخي پاڤل، وأنا في غرف مختلفة، اقامت حارسا عند كل واحد منا، وابتدأت تفتش كل شيء. وبقيت تبحث نحو ١٢ ساعة. وبعد ان وضعت قائمة بكل المطبوعات التي وجدتها، جمعتها في صناديق.
وبعد ذلك أُمرتُ بأن ادخل في سيارة، ووُضعَت نظارة سوداء على عينيَّ. بدا ذلك غريبا، ولكني تمكنت من ازاحة النظارة قليلا لأرى المكان الذي كانوا يأخذونني اليه. كانت الشوارع مألوفة. وكانت وجهتنا المقر العام الرديء السمعة لأمن الدولة.
دفعوني خارج السيارة. وبعد ذلك عندما نُزعت النظارة، وجدت نفسي في غرفة صغيرة وقذرة. امرتني امرأة في بزتها الرسمية ان اخلع ثيابي وأرتدي سروال عمل سميكا وقميصا رجاليا. ورُبطت عصابة حول رأسي لتغطية عينيَّ، وأُخرجتُ من الغرفة معصوبة العينين وجعلوني اسير في ممرات بدا انها لا تنتهي.
وأخيرا توقفت الحارسة وفتحت بابا حديديا، ودُفعتُ الى الداخل. ونُزعت العصابة عن رأسي وأُقفل الباب ورائي. كنت في زنزانة سجن. وكانت امرأة في اربعيناتها تحدِّق اليَّ وهي مرتدية ثيابا تشبه ثيابي. شعرتُ بنوع من المرح — ومع ان ذلك يبدو غريبا — لم اتمكن من منع نفسي من الضحك. فكفتاة شابة في الـ ١٩ من العمر لا خبرة لها بأمور كالسجن، بقيت في حالة نفسية جيدة. وبعد وقت قصير ابتهجت كثيرا عندما عرفت انه لم يُحتجز شخص آخر من عائلتنا.
كان خطرا في تلك السنوات ان يكون المرء واحدا من شهود يهوه في ما كان يُعرف آنذاك بتشيكوسلوڤاكيا. كان البلد تحت الحكم الشيوعي، وكان الشهود تحت الحظر. فكيف صارت عائلتنا على علاقة وثيقة الى هذا الحد بهيئة محظورة؟
كيف صرنا شهودا
كان ابي، المولود في پراڠ، من خلفية پروتستانتية ومخلصا جدا في معتقداته الدينية. التقى امي في عشرينات الـ ١٩٠٠ عندما اتت الى پراڠ من اجل دروس طبية. كانت من منطقة تدعى بسارابيا، التي كانت جزءا من روسيا في طفولتها. وبعد ان تزوجا، انضمت الى كنيسة زوجها مع انها كانت يهودية. لكنها لم تكن راضية عنها.
خلال الحرب العالمية الثانية، وُضع ابي في معسكر عمل الزامي، وكاد يُقضى على امي في المحرقة. كانت تلك سنوات صعبة علينا، لكننا بقينا جميعا احياء. وفي منتصف العام ١٩٤٧، بعد سنتين من نهاية الحرب، قامت عمّة لي، كانت واحدة من شهود يهوه، بصنع اشتراك لعائلتنا في برج المراقبة. وكانت امي اول مَن ابتدأ بقراءتها، وسرعان ما قبلت الرسالة المقدَّمة فيها على انها الحق الذي كانت تبحث عنه.
في البداية كانت تقول القليل لنا نحن الباقين، لكنها عرفت اين تُعقد الاجتماعات في پراڠ وابتدأت تحضرها. وفي غضون اشهر قليلة، في ربيع السنة ١٩٤٨، اعتمدَت في محفل دائري للشهود. ثم دعتنا الى الانضمام اليها في حضورها للاجتماعات. فوافق ابي بتردُّد.
كانت الاجتماعات تُعقد في قاعة صغيرة في وسط پراڠ، حيث ابتدأنا نحضر كعائلة. كانت تنتابنا ابي وأنا مشاعر متضاربة، مشاعر الفضول والارتياب على السواء. وأدهشنا ان يكون لأمي اصدقاء جدد تعرِّفهم بنا. وتأثرتُ بحماسهم وتفكيرهم المنطقي، وبمدى تقديرهم الظاهر لأخوَّتهم.
وعندما رأت امي تجاوبنا المؤاتي، اقترحت ان يُدعى الشهود الى بيتنا لإجراء مناقشات مفصلة. وكم صُدمنا ابي وأنا عندما اظهروا لنا من كتابنا المقدس انه ليست هنالك نفس خالدة ولا ثالوث! نعم، كان امرا مدهشا ان نعرف ما تعنيه حقا الصلاة من اجل تقديس اسم اللّٰه وإتيان ملكوته.
بعد اسابيع قليلة دعا ابي عددا من رجال دين كنيسته الى بيتنا. وقال: «ايها الاخوة، اريد ان اناقش بعض النقاط من الاسفار المقدسة معكم.» وعند ذلك عرض خطوة بعد خطوة العقائد الاساسية في الكنيسة وأظهر كيف تناقض الكتاب المقدس. فاعترف رجال الدين ان ما يقوله صحيح. فاختتم ابي النقاش بالقول: «لقد قررتُ، وأنا اتكلم نيابة عن عائلتي، ان اترك الكنيسة.»
حظْر العمل الكرازي
في شباط ١٩٤٨، قبيل ابتدائنا ابي وأنا بحضور الاجتماعات، سيطر الحزب الشيوعي على البلد. كنت ارى رفقائي التلاميذ يُبلغون عن مدرِّسيهم، ورأيت معلمين يخافون من والدي تلاميذهم. وابتدأ كل شخص يتجنب الآخر. ولكن، في البداية، لم يعكِّر شيء تقريبا عمل شهود يهوه.
وأحد الاوجه البارزة من سنة ١٩٤٨ بالنسبة الينا كان محفل شهود يهوه في پراڠ. وأكثر من ٨٠٠,٢ شخص كانوا حاضرين من ١٠ الى ١٢ ايلول. وبعد اسابيع قليلة، في ٢٩ تشرين الثاني ١٩٤٨، اقتحمت الشرطة السرية مكتب الفرع وأُقفل. وفي شهر نيسان التالي وُضع حظر رسمي على عملنا.
لم يُرهِب عائلتَنا ايٌّ من هذين الاجراءين، وفي ايلول ١٩٤٩ حضرنا برنامجا خصوصيا في الغابة خارج پراڠ. وبعد اسبوع اعتمدنا ابي وأنا. ورغم اننا حاولنا ان نكون حذرين في العمل الكرازي، أُلقي القبض عليَّ في شباط ١٩٥٢، كما ذُكر في البداية.
استجواب متكرِّر
بعد ان استُجوبتُ عدة مرات، استنتجت انني سأبقى في السجن فترة طويلة. وبدا ان المستجوبين يعتقدون انه كلما طالت فترة سجن المرء مع عدم وجود ايّ شيء يشغل نفسه به، زاد استعداده للتعاون. لكني بقيت اتذكر ارشاد والديَّ، وعمل ذلك على دعمي. فغالبا ما كانا يقتبسان كلمات المزمور ٩٠:١٢، مشجِّعَين اياي على ‹إحصاء ايامي،› اي تقديرها او تقييمها، ‹فأوتى قلب حكمة.›
لذلك كنت اراجع في فكري مزامير بكاملها ومقاطع اخرى من الكتاب المقدس كنت قد حفظتها قبلا. وكنت اتأمل ايضا في مقالات برج المراقبة التي درستها قبل ان أُسجن، وكنت ارنم ترانيم الملكوت لنفسي. وعلاوة على ذلك، كانت هنالك في الاشهر الاولى من حبسي سجينات معي كنت اتحدث اليهن. وكنت ايضا اراجع مواضيع تعلمتها في صفوف المدرسة، وذلك لأني نجحت في الامتحانات النهائية قبل اشهر قليلة فقط.
بدا واضحا لي من الاستجوابات ان مخبرا كان يحضر احد دروسي للكتاب المقدس وأبلغ عن نشاطاتي الكرازية. واستنتجت السلطات انني مسؤولة ايضا عن نُسخ مطبوعات الكتاب المقدس المضروبة على الآلة الكاتبة والتي صودرت في منزلنا. وفي الواقع، كان اخي البالغ من العمر ١٥ سنة فقط يقوم بضربها على الآلة الكاتبة.
بعد فترة اتضح للمستجوبين انني لن اورِّط ايّ شخص آخر، لذلك بُذلت جهود لإقناعي بالعدول عن معتقداتي. حتى انهم جعلوني اواجه شخصا كنت اعرفه كناظر جائل من شهود يهوه. ومع انه كان هو نفسه سجينا، فقد كان يتعاون الآن مع الشيوعيين في حملة تهدف الى جعل الشهود المسجونين الآخرين ينكرون ايمانهم. كم كان انسانا بائسا! وبعد سنوات، بعد اطلاق سراحه، اسرف في شرب الكحول حتى مات.
الحبس الانفرادي
بعد سبعة اشهر نُقلتُ الى سجن آخر ووُضعت في حبس انفرادي. والآن صار يعود اليَّ وحدي فقط تحديد طريقة استخدامي للوقت. كنت أُزوَّد بالكتب عند الطلب، ولكنها طبعا لم تكن من نوع روحي. لذلك وضعت برنامجا لنشاطي شمل فترات من القراءة بالاضافة الى وقت للتأمل في الامور الروحية.
لا بد لي ان اقول انني لم اشعر قط بأنني قريبة الى اللّٰه في صلواتي كما كنت آنذاك. ولم تبدُ لي من قبل فكرة اخوَّتنا العالمية عزيزة الى هذا الحد. وكنت كل يوم احاول ان اتخيل كيف تنتشر البشارة في تلك اللحظة المعيَّنة في مناطق مختلفة من الارض. وكنت اتخيل نفسي اشارك في هذا العمل، مقدِّمة عروض الكتاب المقدس للناس.
ومع ذلك، في هذا الجو الهادئ، وقعت اخيرا في شرك. فلأني كنت دائما احب المطالعة وأتوق الى الحصول على انطباعات من الخارج، صرت احيانا استغرق في قراءة كتاب معيَّن الى حد اهمال برنامج تأملي في الامور الروحية. وبعد ان يحدث ذلك، كنت دائما اشعر بالندم.
وهكذا، أُخذت في صباح احد الايام الى مكتب المدعي العام. لم يجرِ التحدث عن موضوع معيَّن — فقط نتائج استجوابات سابقة. وشعرت بخيبة الامل لأنه لم يحدَّد تاريخ المحاكمة للنظر في قضيتي. وبعد نحو نصف ساعة عدت الى زنزانتي. وهناك فقدت رباطة جأشي وابتدأت ابكي. لماذا؟ هل ظهر فيَّ اخيرا التأثير المعاكس للاسابيع الطويلة في الحبس الانفرادي؟
بدأت احلل مشكلتي وحددت السبب بسرعة. ففي اليوم السابق، استغرقت كثيرا في القراءة، ومن جديد لم احافظ على نشاطاتي الروحية. لذلك عندما أُخذت فجأة للاستجواب، لم اكن في حالة نفسية مدعومة بروح الصلاة كما كان ينبغي. فسكبت قلبي ليهوه بسرعة وصممت ألّا اهمل ابدا ثانية الامور الروحية.
وبعد ذلك الاختبار قررتُ ان الغي القراءة كليا. وعندئذ خطرت على بالي فكرة افضل، ان اجبر نفسي على قراءة اللغة الالمانية. خلال الاحتلال الالماني في الحرب العالمية الثانية، أُجبرنا على تعلُّم الالمانية في المدرسة. ولكن بسبب الامور المريعة التي كانوا يقومون بها خلال احتلالهم لپراڠ، اردت بعد الحرب ان انسى كل شيء الماني، بما في ذلك اللغة. فصممت الآن ان اكون صارمة مع نفسي وأتعلم الالمانية من جديد. لكنَّ ما قُصد ان يكون عقابا تحول الى بركة. دعوني اوضح.
كان بإمكاني الحصول على طبعات المانية وتشيكية على السواء من بعض الكتب، فبدأت ادرِّب نفسي على الترجمة من الالمانية الى التشيكية ومن التشيكية الى الالمانية. ولم يتضح فقط ان هذا العمل هو علاج آخر للتأثيرات المؤذية المحتملة للحبس الانفرادي بل خدم ايضا قصدا نافعا في المستقبل.
اطلاق السراح ومواصلة الكرازة
وأخيرا، بعد ثمانية اشهر في الحبس الانفرادي، رُفعت قضيتي الى المحكمة. واتُّهمت بالقيام بنشاط هدَّام وحُكم عليَّ بالسجن سنتين. وبما اني كنت قد قضيت ١٥ شهرا وبما ان قرار عفو صدر مع انتخاب رئيس جديد، أُطلق سراحي.
عندما كنت في السجن صليت ان لا تتملك عائلتي الهموم بشأني، وعند عودتي الى البيت وجدت ان هذه الصلاة قد استجيبت. كان ابي طبيبا، وشجع كثيرين من مرضاه على درس الكتاب المقدس. ونتيجةً لذلك، كانت امي تدير نحو ١٥ درسا في الاسبوع. وبالاضافة الى ذلك، كان ابي يدير فريقا لدرس مجلة برج المراقبة. وكان يترجم ايضا بعض مطبوعات جمعية برج المراقبة من الالمانية الى التشيكية، وكان اخي يطبع النسخ على الآلة الكاتبة. فانهمكت بسرعة في النشاط الروحي ولم يمضِ وقت طويل حتى صرت اعقد دروسا في الكتاب المقدس.
تعيين جديد
بعد ظهر يوم ماطر في تشرين الثاني ١٩٥٤، قُرع الباب. وعند الباب وقف كونستانتن پاوكرت، احد الذين يأخذون القيادة في العمل الكرازي، والماء يجري من مِمطره الپلاستيكي الرمادي الغامق. عادةً كان يطلب التكلم مع ابي او اخي پاڤل، لكنه سألني هذه المرة: «أيمكنكِ ان تخرجي في نزهة قصيرة؟»
مشينا برهةً قصيرة دون كلام، وكان بعض المشاة يمرُّون بنا. وكان الضوء الخافت من مصابيح الشوارع ينعكس بشكل خفيف على السطح المبلل للرصيف الاسود. ونظر كونستانتن الى الوراء؛ لم يكن هنالك انسان في الشارع وراءنا. فسأل فجأة: «هل ترغبين في ان تساعدي في عمل ما؟» فأومأتُ برأسي موافقة وأنا مندهشة. وتابع قائلا: «نريد انجاز بعض الترجمة. يجب ان تجدي مكانا تعملين فيه انما ليس في البيت ولا مع شخص تعرفه الشرطة.»
بعد ايام قليلة كنت جالسة وراء مكتب في شقة صغيرة هي ملك لزوجين متقدمين في السن لا اعرفهما. كانا من مرضى ابي، ولم يكن قد مرَّ وقت طويل على الابتداء بدرس الكتاب المقدس معهما. وهكذا اتضح ان درسي اللغة الالمانية في السجن كان قيِّما، اذ كنا نترجم آنذاك مطبوعاتنا من الالمانية الى التشيكية.
وبعد اسابيع قليلة سُجن الاخوة المسيحيون الذي يأخذون القيادة في العمل، بمن فيهم الاخ پاوكرت. ولكنَّ كرازتنا لم تُوقَف. وساعدت نساء، بمن فيهن امي وأنا، في الاهتمام بفرق درس الكتاب المقدس وخدمتنا المسيحية. وخدم اخي پاڤل، مع انه كان لا يزال مراهقا، كساعٍ لتوزيع المطبوعات والارشادات التنظيمية في كل انحاء الجزء الناطق بالتشيكية من البلد.
رفيق حبيب
في اواخر سنة ١٩٥٧، أُطلق سراح ياروسلاڤ هالا من السجن وقتيا للمعالجة الطبية، وهو شاهد أُوقف في سنة ١٩٥٢ وحُكم عليه بالسجن ١٥ سنة. فاتصل به پاڤل في الحال، وسرعان ما عاد ياروسلاڤ ينهمك من جديد في مساعدة الاخوة. وبما انه كان يعرف اللغتين جيدا، ابتدأ يقوم بمعظم عمل الترجمة.
في مساء احد الايام في اواسط سنة ١٩٥٨، دعانا ياروسلاڤ پاڤل وأنا للتنزه. كنا نقوم بذلك عادةً لمناقشة مسائل تنظيمية، لأنه كان في شقتنا جهاز تنصُّت. ولكن بعد ان تكلم على حدة مع پاڤل، طلب منه ان ينتظر على مقعد في المنتزه فيما نواصل نحن الاثنين سيرنا. وبعد مناقشة قصيرة تتعلق بمهماتي، سألني ما اذا كنتُ ارغب، بالرغم من صحته الضعيفة ومستقبله غير الاكيد، في التزوُّج به.
ادهشني طلب اليد الصادق والمباشر هذا من قِبل شخص اكنُّ له احتراما كبيرا، فوافقت دون تردُّد. وجعلتني خطبتنا على اتصال وثيق بوالدة ياروسلاڤ، وهي مسيحية ممسوحة. كانت هي وزوجها بين الشهود الاولين في پراڠ في اواخر عشرينات الـ ١٩٠٠. وقد سجنهما النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، ومات زوجها في سجن شيوعي سنة ١٩٥٤.
قبل ان نتزوج، استدعت السلطات يارا، كما كنا ندعوه. وقالوا له انه عليه إما ان يقبل اجراء عملية لذات الجنب pleurisy المزمن المصاب به — الامر الذي عنى آنذاك قبول نقل الدم — او يقضي باقي عقوبته في السجن. وبما انه رفض العملية، فقد عنى ذلك انه بقيت له عشر سنوات تقريبا من السَّجن. فقررتُ ان انتظره.
وقت امتحان وشجاعة
في اوائل سنة ١٩٥٩ أُخذ يارا الى السجن، وبعد وقت قصير تلقينا رسالة تشير الى انه في حالة نفسية جيدة. وبعد ذلك انقضت فترة طويلة قبل ان تصل رسالة كان لها وقع الصاعقة علينا. فقد عبَّرت عن الاسف، الحزن، والخوف، كما لو ان يارا يعاني انهيارا عصبيا. فقالت امه: «لا بد ان شخصا آخر كتبها.» لكنَّ الخط كان خطه!
فكتبنا امه وأنا اليه وعبَّرنا عن ثقتنا بيهوه وشجعناه. وبعد اسابيع كثيرة، وصلت رسالة اخرى، وكانت محيِّرة اكثر. فقالت امه ايضا: «لا يمكن ان يكون هو مَن كتبها.» ولكنَّ الخط كان حتما نمطه، وكانت هنالك ايضا تعابيره المميِّزة. ثم لم نتلقَّ اية رسائل اخرى، ولم يُسمح بالزيارات.
وبشكل مماثل، تلقى يارا رسائل مقلقة زُعم انها منا. كانت رسائل امه تلومه على تركها وحدها وهي في هذه السن المتقدمة، وكانت رسائلي تعرب عن الانزعاج لاضطراري الى انتظاره كل هذه المدة. وكان في هذه الرسائل ايضا تشابه كبير في خطَّينا وطريقتَينا في التعبير. في البداية انزعج هو ايضا، لكنه اقتنع في ما بعد بأنه لا يمكن ان نكون نحن مَن كتب الرسائل.
في احد الايام اتى شخص الى الباب، سلَّمَني حزمة صغيرة، وانصرف مسرعا. كانت فيها عشرات من رقاقات اوراق السجائر، وعليها كُتبت اصغر كتابة يد ممكنة. كان يارا قد نسخ الرسائل التي زُعم اننا كتبناها، بالاضافة الى عدد من رسائله غير المراقَبة. وبعد ان تسلَّمنا هذه الاوراق التي هرَّبها سجين غير شاهد أُطلق سراحه، كم ارتحنا وشكرنا يهوه! وحتى هذا اليوم لا نعرف ابدا كيف او مَن هو العقل الموجِّه الذي قام بهذه المحاولة الشيطانية لكسر استقامتنا.
ولاحقا سُمح لوالدة يارا بأن تزور ابنها. وفي تلك المناسبات كنت ارافقها الى بوابة السجن وأراقب هذه المرأة الصغيرة القدّ والضعيفة تقوم بأعمال تنمُّ عن شجاعة كبيرة. فمع ان الحراس كانوا يراقبون، كانت تمسك يد ابنها وتمرِّر اليه مطبوعة مصوَّرة فوتوڠرافيا صغيرة الى اقصى حد ممكن. ورغم ان اكتشاف ذلك كان يعني عقابا شديدا، وخصوصا على ابنها، فقد اتكلت على يهوه، مدركةً ان المحافظة على الصحة الروحية لها دائما الاولوية.
ولاحقا، في سنة ١٩٦٠، أُعلن عن عفو عام، وأُطلق سراح معظم الشهود من السجن. وعاد يارا الى البيت، وبعد اسابيع قليلة صرنا زوجين سعيدين متزوِّجين حديثا.
تغيير نمط حياتي
عُيِّن يارا في العمل الجائل، خادما مصالح الاخوة في كل انحاء البلد. وفي السنة ١٩٦١ عُيِّن له تنظيم اول صف لمدرسة خدمة الملكوت في الجزء الناطق بالتشيكية من البلد، بالاضافة الى ادارة العديد من صفوف المدرسة بعد ذلك.
وبسبب التغييرات السياسية التي حصلت في تشيكوسلوڤاكيا سنة ١٩٦٨، تمكن في السنة التالية عدد منا من حضور المحفل الاممي «السلام على الارض» لشهود يهوه في نورمبورڠ، المانيا. لكنَّ السلطات لم تسمح ليارا بأن يغادر البلد. فالتقط البعض منا صورا منزلقة لذلك المحفل الكبير، وحصل يارا على امتياز المشاركة في تقديم برنامج مقوٍّ للايمان أبرزَ هذه الصور في كل انحاء البلد. وتمنى كثيرون ان يروا البرنامج مرارا وتكرارا.
لم نكن ندرك ان هذه ستكون المرة الاخيرة التي يزور فيها يارا الاخوة. ففي اوائل سنة ١٩٧٠، تدهورت صحته بشكل مفاجئ. والالتهاب المزمن، الذي تعلَّم العيش معه، أثَّر في كليتيه، وكان القصور الكلوي مميتا. فمات وهو في الـ ٤٨ من العمر.
مدعومة بعون يهوه
فقدتُ مَن احببته حبا جما. ولكني مُنحت عونا سريعا ضمن هيئة اللّٰه، لأنه سُمح لي بأن اشارك في ترجمة مطبوعات الكتاب المقدس. كان ذلك كما لو اني في سباق تتابع، اذ شعرت بأن زوجي سلَّمني العصا لأواصل ذلك الجزء من العمل الذي كان يقوم به.
كثيرون منا في اوروپا الشرقية خدموا يهوه طوال اكثر من ٤٠ سنة تحت الحظر الشيوعي. ثم، في سنة ١٩٨٩، بإزاحة الستار الحديدي، بدأت الحياة هنا تتغير بشكل مذهل. كنت احلم بأن يعقد شهود يهوه محفلا في مدرَّج ستراهوف الضخم في پراڠ، ولم اتصور قط ان هذا الحلم سيتحقق. لكنه تحقق في آب ١٩٩١ بطريقة رائعة عندما اجتمع اكثر من ٠٠٠,٧٤ في عبادة مفرحة!
لم يعد لتشيكوسلوڤاكيا وجود في كانون الثاني ١٩٩٣ عندما قُسِّم البلد الى بلدين — الجمهورية التشيكية وسلوڤاكيا. وكم فرحنا عندما منحت الجمهورية التشيكية في ١ ايلول ١٩٩٣ شهود يهوه الاعتراف الرسمي!
اعرف من اختبارات حياتي ان يهوه يخبئ دائما بركة لنا، شرط ان نسمح له بأن يعلمنا كيف نحصي ايامنا. (مزمور ٩٠:١٢) وأصلي دائما الى يهوه ان يعلمني كيف احصي باقي ايامي في نظام الاشياء هذا لكي اكون، في الايام التي لا تحصى في عالمه الجديد في المستقبل، بين خدامه السعداء.
[الصورة في الصفحة ١٩]
امي وأبي
[الصورة في الصفحة ٢١]
اجتماع في الغابة سنة ١٩٤٩ خلال الحظر: ١- اخي پاڤل، ٢- امي،٣- ابي، ٤- انا، ٥- الاخ هالا
[الصورة في الصفحة ٢٢]
مع زوجي يارا
[الصورتان في الصفحة ٢٣]
والدة يارا والمطبوعات المصوَّرة فوتوڠرافيا التي كانت تهرِّبها له
[الصورة في الصفحة ٢٤]
اعمل اليوم في الفرع في پراڠ