محبة عائلتي للّٰه بالرغم من السجن والموت
كما روتها ماجدلينا كوسيروي رويتر
كان النازيون سيعدمون اخي ويلهلم في الصباح التالي. جريمته؟ اعتراض بسبب الضمير على الخدمة في الجيش الالماني. كان ابن ٢٥ سنة ومدركا تماما لاعدامه الوشيك رميا بالرصاص. وفي اثناء ذلك المساء، في ٢٦ نيسان ١٩٤٠، كتب الينا الرسالة الوداعية التالية، وأوى بعد ذلك الى الفراش بسلام ونام نوما عميقا.
«والديَّ واخوتي واخواتي الاعزاء:
كلكم تعرفون مدى اهميتكم عندي، وانا اتذكر ذلك تكرارا كلما نظرت الى صورتنا العائلية. كم كانت الامور منسجمة دائما في البيت. ومع ذلك، علينا قبل كل شيء ان نحب اللّٰه، كما امر قائدنا (فوهرر) يسوع المسيح. فاذا ناصرناه سيكافئنا.»
في ليلته الاخيرة كان عزيزنا ويلهلم يفكر فينا — ابويه واخوته الخمسة وأخواته الخمس المسيحيين، عائلة منسجمة وكبيرة بشكل غير عادي. وخلال اضطرابات الزمن تأكدنا كعائلة ان تأتي دائما محبتنا للّٰه في المقام الاول.
بيتنا «للعصر الذهبي»
كان والداي، فرنز وهيلدا كوسيروي، تلميذين للكتاب المقدس غيورين او «بيبلفورشور» (شهود يهوه) من وقت معموديتهما سنة ١٩٢٤، السنة التي ولدتُ فيها بصفتي ولدهما السابع. كانت سنوات الحداثة التي قضيناها نحن الاولاد الـ ١١ مع ابوينا وقتا رائعا. وبما ان والدي تقاعد عن عمله الدنيوي باكرا في حياته فقد استطاع تخصيص الكثير من الوقت لنا. هذا ما عمله انسجاما مع مبادئ الكتاب المقدس. ولم يمض يوم دون حصولنا على المشورة والتعليم من الكتاب المقدس. لقد ادرك ابوانا ان الاولاد لا يصبحون مسبّحين ليهوه بشكل آلي لمجرد ان ابويهم هما كذلك.
في سنة ١٩٣١ لبّى ابي دعوة جمعية برج المراقبة للانتقال بعائلته الكبيرة الى مقاطعة حيث لم تكن جماعة محلية في ذلك الوقت. وفي بادربورن وضواحيها — التي تشمل حوالى ٢٠٠ بلدة وقرية — كان لدينا الكثير من العمل في الكرازة برسالة الملكوت. وخدمت اختي الاكبر سنا، آن ماري، كفاتحة خصوصية، أما والدي وأخي سيغفريد البالغ ١٥ سنة من عمره فخدما كفاتحين قانونيين.
كان بامكان الناس ان يروا حتى من بعيد لافتتين كبيرتين مرسومتين على جانبي بيتنا في باد ليبسبرينج. هناك كان ابي قد كتب بالالمانية: اقرأوا «العصر الذهبي» (الاسم السابق لمجلة «استيقظ!») كان البيت يقع على جانب خط ترامواي يصل بادربورن بديتمولد. وكلما توقف الترام قبالة البيت كان السائق ينادي: «موقف ترامواي العصر الذهبي!» وبالحقيقة اصبح لنا بيتنا، الواقع على ثلاثة اكرات (٢,١ هكتار) من الارض والمحاط بحديقة جميلة من الشجيرات والاشجار، مركزا للتثقيف والنشاط يدور كله حول محور العصر الذهبي لملكوت اللّٰه القادم. — متى ٦:٩، ١٠.
الكل بانسجام
ان عائلة مباركة بهذا العدد من الاولاد كانت تتطلب الادارة. فغالبا ما كان هنالك خضار وفاكهة للجني. والدجاج والبط كان بحاجة الى العناية، وخروف العائلة كان يلزمه زجاجة الارضاع. والكلب الصغير «فيفي» والقطة «بوسي» كانا يحتاجان الى الاعتناء «كعضوين» محبوبين في العائلة. لذا برمج والدي عمل التدبير المنزلي والاعتناء بالحديقة وبالحيوانات الاليفة. وكل ولد منا ساهم في المهمات اليومية المختلفة، التي كانت تُعطى بالتناوب للصبيان والبنات على اساس اسبوعي.
ضمَّن ابي ايضا وقتا للتسلية، التي كانت تشمل الموسيقى والرسم وعددا من الامور الاخرى، وكلها تحت اشراف امي التي كانت معلمة محترفة. كنا نملك خمسة كمانات، بيانو واحد، ارغنا مزماريا، اكورديونين، قيثارتين وعدة فلوتات. نعم، لم يشرف ابوانا على فروضنا المدرسية وحسب بل جعلا ايضا الموسيقى والغناء جزءا من برنامجنا التربوي.
ما أعتبره كليّ الاهمية اليوم هو انه لم يمضِ يوم واحد دون حصولنا على بعض الارشاد الروحي، أكان ذلك على مائدة الطعام نائلين اجوبة عن اسئلتنا او بواسطة تعلمنا آيات مختلفة من الكتاب المقدس من ظهر القلب. وشدد والدي ايضا على تعلمنا التعبير عن انفسنا بشكل صحيح. وبكلمات اخرى، كنا نعيش حياة عائلية مثالية، افضل مما تستطيع اية قصة ان تروي. طبعا، كانت لنا ايضا ضعفاتنا وكان والدنا يؤدبنا غالبا بالكلمات التي تؤلم اكثر من اية عقوبة جسدية. لقد علَّمنا دائما ان نعتذر عن اخطائنا وان نسامح الآخرين. ولم ندرك وقتئذ كم كان كل هذا التدريب سيغدو مهما.
والعضو الاحدث سنا في العائلة، بول-غرهارد الصغير، ولد في السنة ١٩٣١. فرحَّب به اخوته ويلهلم، كارل-هاينز، ولفغنغ، سيغفريد وهانز-ورنر، فضلا عني وعن اخواتي آن ماري، والترود، هيلدغارد وأليزابيت.
الضيق يبدأ
في هذا الوقت تقريبا كان ادولف هتلر يتسلم السلطة في المانيا. وظهر ان ابي عرف ان المشاكل هي على وشك الظهور، فأعدَّنا اكثر فأكثر للسنوات الصعبة المقبلة. لقد بيَّن لنا من الكتاب المقدس ان بعض الشهود الامناء سيضطهدون، ويلقون في السجن، وحتى يقتلون. (متى ١٦:٢٥؛ ٢ تيموثاوس ٣:١٢؛ رؤيا ٢:١٠) اتذكر اني اعتقدت انه ليس بالضرورة ان يحدث ذلك لعائلتنا. ولم اعلم الا القليل بما كان المستقبل يعدّه لنا.
المصيبة الاولى كانت وفاة شقيقي سيغفريد بعمر ٢٠ سنة نتيجة غرقه العرضي. ثم في ربيع السنة ١٩٣٣ اصبحنا تحت المراقبة من قبل الاشتراكيين الوطنيين، المعروفين عموما الآن بالنازيين. وأمر البوليس السري بمحو اللافتتين اللتين على منزلنا. لكنّ الطلاء في تلك الايام كان ضعيفا حتى انه كان لا يزال بامكانك ان ترى «العصر الذهبي» يُشعّ من خلاله! كما استمر سائق الترام في النداء: «موقف ترامواي العصر الذهبي!»
تدريجيا اصبحت الضغوط اقوى. والشهود الرفقاء، الذين اساء معاملتهم بقساوة رجال الغستابو، لجأوا الى بيتنا. وتوقف معاش ابي التقاعدي لانه رفض ان يقول «هايل هتلر.» وما بين السنة ١٩٣٣ والسنة ١٩٤٥ فتش الغستابو بيتنا نحو ١٨ مرة. ولكن هل اخافنا كل ذلك نحن الاولاد؟ اختي والترود تتذكر: «حتى عندما عنف الاضطهاد استمددنا القوة من ابوينا اللذين استمرا في درس الكتاب المقدس قانونيا معنا. وكنا لا نزال نتبع برنامج الوالد.»
الاحدث سنا تحت الضغط
بمشاعر القلق كان الاحدث سنا بيننا يذهبون الى المدرسة كل يوم. وكان المعلمون يطلبون ان نحيي العلم، ان ننشد اناشيد نازية وان نرفع ايدينا قائلين «هايل هتلر.» لقد جُعلنا موضوع سخرية بسبب رفضنا. ولكن ماذا ساعدنا لنبقى ثابتين؟ كلنا نوافق ان السر كان ان الوالد والوالدة كانا يوميا يناقشان معنا مشاكلنا الافرادية كلما نشأت. (افسس ٦:٤) لقد اوضحا لنا كيف نتصرف وكيف ندافع عن انفسنا بواسطة الكتاب المقدس. (١ بطرس ٣:١٥) وغالبا ما اقمنا جلسات تدريب، طارحين الاسئلة ومعطين الاجوبة عنها.
اختي أليزابيت تذكر امتحانا قاسيا تعرضت له: «ان الفترة الشديدة الصعوبة علينا التي لن ننساها ابدا كانت في ربيع السنة ١٩٣٩ عندما اتهمنا مدير المدرسة نحن الاولاد بأننا مهمَلون روحيا وأدبيا ودبَّر بواسطة المحكمة لنقلنا من المدرسة وابعادنا الى مكان مجهول. كنت في الـ ١٣ من عمري، هانز-ورنر في الـ ٩، وبول غرهارد الصغير في الـ ٧ فقط.»
ومؤخرا، بعد اكثر من ٤٠ سنة، تسلم بول-غرهارد رسالة من رسمي كان ضميره لا يزال يقلقه. كتب: «كنت الشرطي الذي اخذك مع اخيك واختك الى المدرسة الاصلاحية. سلمتكم في ذلك المساء نفسه.» تصوروا هؤلاء الاولاد الثلاثة العزَّل مبعدين عن المدرسة دون اية كلمة لابوينا!
حاولت امي ان تكتشف اين أُخذوا، وأخيرا بعد بضعة اسابيع اكتشفت موضعهم في مدرسة اصلاحية في دورشتن. ادرك المدير بسرعة ان الاولاد كانوا ذوي عادات جيدة وأنهم لا ينتمون الى ذلك المكان، لذلك أُطلقوا بعد بضعة اشهر. ولكنهم فشلوا في الوصول الى البيت. فماذا حدث؟
اعترض الغستابو لاخويَّ وأختي فنُقلوا من دورشتن الى نتلشتاد قرب مندن ووُضعوا في مدرسة تدريب نازية. طبعا كانت زيارات الاقارب محظورة، ولكنّ امي حاولت بكل طريقة ممكنة ان تشدد اولادها، بما فيها ارسال رسائل مخبأة. حتى انها تمكنت مرة ان تلتقيهم وتكلمهم سرا. وفُرِّق الاولاد لاحقا وأُخذوا الى اماكن مختلفة. ومع ذلك حافظوا على استقامتهم ورفضوا تحية العلم او القول «هايل هتلر.» لقد اشاروا الى الاعمال ٤:١٢ حيث قيل عن يسوع: «ليس بأحد غيره الخلاص (هايل، بالالمانية).»
العائلة بكاملها توضع تحت الامتحان
في هذه الاثناء قضى والدي عقوبتين بالسجن. وفي ١٦ آب ١٩٤٠ أُطلق من السجن وانما ليُرسل بعد ثمانية اشهر للعقوبة الثالثة الى سجن كاسل-فلهايدن. ولكن، خلال فترة الحرية القصيرة هذه، كم كان فرحه شديدا اذ استطاع ان يعمد ثلاثة منا — هيلدغارد البالغة ١٩ سنة من عمرها، ولفغنغ البالغ ١٨ وانا وكنت وقتئذ في الـ ١٦.
حُبس ابي ثانية في الوقت نفسه الذي حُجزت به امي وهيلدغارد. وأُخذتُ انا الى المحكمة ايضا، وبعمر ١٧ سنة حُكم عليَّ بالسجن الانفرادي في سجن الاحداث في فيشتا. وهنالك لم يكن لديَّ تقريبا شيء لافعله. ان الصحو باكرا ومجرد الجلوس كل النهار اتطلع الى الحيطان المطلية بالكلس لم يكن سهلا. حاولت قدر المستطاع ان اتذكر ما تعلمته وذُهلت للغنى الروحي الذي وجدت. لقد اعدت الى ذهني ترنيمات ملكوت كاملة وتدربت على مواضيع من الكتاب المقدس. كم كنت شاكرة على التدريب الدقيق الذي منحني اياه والداي.
عندما اوشكت ان تنتهي فترة الستة اشهر الاولى من سجني دعتني مديرة السجن الى مكتبها وأوضحت انه سيُخلَّى سبيلي اذا وقَّعت ورقة انكر فيها معتقداتي باعتبارها تعليما باطلا. مرة اخرى حصلت على امتياز الدفاع عن ايماني. وكان جوابها الصمت. ثم قالت بصوت حزين انها مضطرة الى ارجاعي الى الغستابو. وبعد اربعة اشهر نُقلت الى معسكر الاعتقال في رافنسبروك.
كانت امي وهيلدغارد لا تزالان في معتقل آخر. والتقيت بهما لاحقا عندما عُيِّنتا في رافنسبروك. ثم تمكنا امي وانا من البقاء معا حتى نهاية الحرب. وكانت آن ماري ووالترود ايضا تقضيان وقتا في السجن. والآن كان كل عضو في العائلة اما انه وُضع خلف القضبان او أُبعد. والمنزل الكبير في باد ليبسبرينج، الذي كان مرة مليئا بضحك وغناء الاولاد الخلو من الهم، اصبح الآن خاليا. واللافتتان على كلا جانبي المنزل طُليتا مرة بعد اخرى. «العصر الذهبي» تلاشت عن الانظار.
رافنسبروك — اصدقاء واعداء
عندما وصلت الى رافنسبروك كنت، بالرغم من خشيتي، اترقب لقاء شهود آخرين. ولكن كيف استطيع ان اجدهم بين ألوف المعتقلين الآخرين؟ وجزء من اجراء الترحيب كان ازالة القمل. والسجينة التي تفحَّصت رأسي سألت بصوت منخفض «لماذا انت هنا؟» «انا بيبلفورشور،» اجبت. فردت بفرح «اهلا من كل القلب يا اختي العزيزة!» أُخذت بعد ذلك الى قسم البيبلفورشور حيث اخذتني الاخت جرترود بوتزنغر تحت رعايتها.
في اليوم التالي دُعيت الى مكتب آمر المعتقل. وعلى مكتبه وُضع كتاب مقدس كبير مفتوح الى سفر رومية الاصحاح ١٣. امرني بقراءة العدد الاول الذي يقول: «لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة.» وبعد ان انتهيت قال: «والآن ستوضحين لي لماذا لا تريدين اطاعة السلاطين الفائقة.» فأجبت: «لاوضح ذلك عليَّ ان اقرأ الاصحاح بكامله.» عند ذلك اطبق الكتاب المقدس على نحو مفاجئ وصرفني. وهكذا بدأت سنواتي الثلاث والنصف في رافنسبروك.
عدا وحشية حراس الـ س س ربما كانت فصول الشتاء اسوأ جزء من ذلك الاختبار. كنا نقف صفوفا في البرد القارس كل صباح من اجل الاحصاء الرسمي للافراد. كان ذلك يبدأ في الـ ٤ صباحا ويمكن ان يستمر ما بين ساعتين وخمس ساعات! ولم يُسمح لنا بوضع ايدينا في جيوبنا، فتقرَّحت يداي ورجلاي من البرد واحتجت الى العناية الطبية.
لكننا استخدمنا ايضا هذه الساعات المبدَّدة في الاصطفاف لبناء احدانا الاخرى روحيا. فعندما يصبح حراس الـ س س بعيدين عن مدى السمع كنا نردد جميعا آية من فم الى فم وهكذا نركز اذهاننا على كلمة اللّٰه. وفي احدى المناسبات تعلَّمنا كلنا المزمور ٨٣، مكررات اياه الواحدة تلو الاخرى، ومحترسات لئلا يمسكنا احد الحراس. هذه المعونة الروحية ساعدتنا على الاحتمال. ولكن لنعد الى ربيع السنة ١٩٤٠.
الشهيد الاول
حُكم على اخي الاكبر ويلهلم بالموت وأُعدم علنا في حديقة المستشفى في مونستر. كان الشهيد الاول للعائلة. امي وانا زرناه قبل وفاته بوقت قصير. فتأثرنا من رباطة جأشه الحازمة. وقد اراد من الوالدة ان تأخذ معطفه قائلا: «لا احتاجه بعد الآن.»
رفض هتلر الاستئناف الثالث لويلهلم لعقوبة الاعدام ووقَّع شخصيا مذكرة اعدامه. ولكن حتى عندما كانت عينا ويلهلم تُعصبان عُرض عليه فرصة اخيرة للتخلي عن ايمانه. فرفض. ورغبته الاخيرة؟ ان يطلقوا النار مستقيما. ومحاميه المعين من المحكمة كتب لاحقا الى العائلة: «مات فورا، مواجها الموت منتصبا. وموقفه اثَّر في المحكمة وفينا جميعا بعمق. لقد مات وفقا لاقتناعاته.»
على الفور ذهبت امي الى مونستر للمطالبة بالجثة. فكانت مصممة على دفنه في باد ليبسبرينج. وكما قالت، «سنعطي شهادة عظيمة للاشخاص الذين عرفوه.» واضافت، «سأجعل الشيطان يدفع ثمن قتله ويلهلم.» وقدّمت طلبا من اجل ابي بهدف منحه اجازة اربعة ايام من السجن لحضور الجنازة، ولدهشتنا جرت الموافقة على الطلب!
قدّم الوالد الصلاة في المأتم فيما تكلَّم كارل-هاينز، الابن الثاني بعد البكر، بكلمات التعزية من الكتاب المقدس الى جمع كبير من المفجوعين المحتشدين عند قبر ويلهلم. وبعد بضعة اسابيع، ودون اية محاكمة، أُرسل كارل-هاينز ايضا الى معسكر للاعتقال، الى ساكسنهاوزن اولا ثم الى داشاو.
شهيد ثان
وأخي الاكبر الآخر، ولفغنغ، كان قد اخذ موقفه الى جانب الاله الحقيقي عندما اعتمد، بالرغم من علمه ان هذا قد يؤدي الى موته. لكنه لم يستطع ان ينسى امثلة الثبات الرائعة من قبل ابيه واخوته، وفي الواقع، من قبل العائلة بأجمعها. وفي ٢٧ آذار ١٩٤٢ بعد معموديته بسنة ونصف السنة، كان هو نفسه جالسا في زنزانة في برلين يكتب الرسالة الوداعية التالية:
«الآن، كابنكم واخيكم الثالث، عليَّ ان اغادركم صباح غد. لا تحزنوا، لانه سيأتي الوقت حين نجتمع ثانية . . . وكم سيكون ابتهاجنا عظيما آنذاك حين نتحد من جديد! . . . الآن مُزقنا بعضنا عن بعض، وكل واحد منا عليه ان يحتمل التجربة. اما آنذاك فسنكافأ.»
قرر هتلر ان الموت رميا بالرصاص كان كثير الرحمة للمعترضين بسبب الضمير. فأمر بقطع الرأس بواسطة المقصلة. وبصفته شهيد عائلتنا الثاني، قُطع راس ولفغنغ في معتقل برادنبورغ. وكان في مجرد الـ ٢٠ من عمره.
المحبة للّٰه لا تزال تأتي في المقام الاول
ماذا حلَّ بأعضاء العائلة الذين نجوا من عصر هتلر؟ كان والترود وهانز-ورنر اول العائدين الى باد ليبسبرينج عند نهاية الحرب العالمية الثانية. تبعهما هيلدغارد، أليزابيت وبول-غرهارد. وابي، بساق مكسورة، بدأ الرحلة الى البيت وهو قابع بين خراف محمولة في عربة للماشية.
«كنا جد سعداء برجوع الوالد الينا حرا مرة اخرى.» تتذكر والترود. «لكنه كان مريضا جدا. وفي حزيران ١٩٤٥ اعادت ممرضة اخانا كارل-هاينز المريض على نحو خطير من معسكر الاعتقال في داشاو. وفي تموز ١٩٤٥ رجعت آن ماري من معسكر هامبورغ-فولسبوتل عن طريق فرعية. وآخر اعضاء العائلة، امي وماجدلينا، بعد صعوبات عديدة رجعتا من رافنسبروك في ايلول ١٩٤٥. كم من الامور كان لدينا للتحدث عنها!»
هل اماتت فترة الاضطهاد والخسارة العائلية محبتنا للّٰه؟ كلا على الاطلاق. فوالدي، بالرغم من مرضه، لم يعرف الراحة حتى اعاد تنظيم العمل، بما فيه نشاط الكرازة من بيت الى بيت، ورتب لعقد الاجتماعات. وفيما اقمنا برنامجا عائليا يزود العناية للمرضى ويتأكد من حاجة تحصيل المعيشة لم ننسَ ان محبتنا للّٰه يجب ان تأتي اولا. وتأملنا في امكانيات الخدمة كامل الوقت. فكان ان اصبحنا، اليزابيت وانا، فاتحتين خصوصيتين في سنة ١٩٤٦ فيما خدم آن-ماري وبول-غرهارد كفاتحين قانونيين.
النتائج اللاحقة
لكنّ النتائج اللاحقة للاضطهاد على صحتنا سرعان ما غدت ظاهرة. ففي تشرين الاول من السنة ١٩٤٦، وبعمر ٢٨ سنة، توفي كارل-هاينز بداء السل. وفي تموز ١٩٥٠ انهى والدي الحبيب مسلكه الارضي بايمان راسخ ان اعماله ستتبعه. وامي، التي كانت تملك رجاء سماويا ايضا، ماتت في السنة ١٩٧٩. (انظر الرؤيا ١٤:١٣.) واليزابيت كان عليها ان تتخلى عن خدمتها كامل الوقت لكنها بقيت امينة حتى موتها في سنة ١٩٨٠. في عام ١٩٥١ انخرطت امي في خدمة الفتح، ومع انها كانت قد تجاوزت الـ ٦٠ من عمرها فقد تمكنت من الاستمرار لثلاث سنوات ونصف السنة. وكم كان فرحها عظيما عند رؤيتها، قبل موتها، معظم حفدائها يتبنون الخدمة كامل الوقت.
اخي الاصغر، بول-غرهارد، عمل في المطبعة في البتل الالماني الى ان دُعي الى حضور مدرسة جلعاد الارسالية فتخرج مع الصف الـ ١٩ عام ١٩٥٢. وبعد عدة سنوات اضافية من الخدمة كامل الوقت اضطر الى التوقف عندما مرضت زوجته بشكل خطير. ومع انها لا تزال طريحة الفراش، فانه يخدم كشيخ، وابنتهما بريجيت تخدم في الوقت الحاضر كفاتحة خصوصية. ابنهما دتلف يخدم فاتحا منذ ١٤ سنة. وولدا اليزابيت الاثنان، جثرو وولفغنغ، منخرطان ايضا في الخدمة كامل الوقت منذ عدة سنوات.
في عام ١٩٤٨ ذهبت انا ايضا للخدمة في بتل فيسبادن. وضمن عائلة البتل شعرت بالامان، تماما كما لو كنت في البيت. عملنا بكد، مشتغلين غالبا حتى ساعة متأخرة من الليل، منزلين شحنات كبيرة من الكتب الآتية من المركز الرئيسي في بروكلين. وفي السنة ١٩٥٠ تزوجت جورج رويتر، عاملا رفيقا في البتل. بذلك بدأت فترة جديدة بالنسبة اليّ، مليئة بالاختبارات الرائعة الى جانب زوجي في العمل الدائري والكوري والارسالي في توغو، افريقيا، وفي اللوكسمبورغ والآن في جنوب اسبانيا.
وبقية العائلة؟ في عام ١٩٦٠ انتقلت آن ماري ووالترود وهيلدغارد، بالاضافة الى امي، الى مدينة المانية كبيرة حيث عملن مع جماعات تتكلم الانكليزية والايطالية. وهيلدغارد، التي نجت من خمس سنوات تقريبا قضتها في السجون وفي معسكر الاعتقال، استسلمت اخيرا للموت سنة ١٩٧٩. وآن ماري ووالترود واصلتا العيش بروح التضحية بالذات وبالعمل التقوي.
حقا، اختبرت عائلتنا، التي جعلت محبتها للّٰه تأتي اولا، كلمات يسوع ان «ابليس مزمع أن يلقي بعضا . . . في السجن،» ممتحنا امانة خدام اللّٰه «الى الموت.» لكننا لم ننس قط ما قاله يسوع ايضا: «من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني.» — رؤيا ٢:١٠، ١١.
اذن لدينا كل سبب للتطلع الى الامام الى كوننا متحدين في «العصر الذهبي» القادم — غير المرسوم بعد الآن على مجرد حائط. ففي ظل ملكوت اللّٰه سيكون ذلك حقيقة! — رؤيا ٢٠:١١–٢١:٧.
[الصورة في الصفحة ٥]
منزل العائلة الواقع عند موقف ترامواي «العصر الذهبي»