لم ندعم حرب هتلر
كما رواها فرانز ڤولْفارْت
خدم والدي ڠريڠور ڤولْفارْت في الجيش النمساوي خلال الحرب العالمية الاولى (١٩١٤ الى ١٩١٨) وحارب ايطاليا. وقد قُتل مئات الآلاف من النمساويين والايطاليين. فغيَّرَت اهوال هذا الاختبار كليا نظرة ابي الى الدين والحرب.
رأى والدي كهنة نمساويين يباركون الجنود، وعلم ان الكهنة الايطاليين في الجانب الآخر كانوا يفعلون الامر عينه. فكان يسأل: «لماذا يُدفع الجنود الكاثوليك الى قتل كاثوليك آخرين؟ وهل يجب على المسيحيين ان يخوضوا الحرب واحدهم ضد الآخر؟» إلا انه لم تكن عند الكهنة اجوبة مرضية.
اجوبة عن اسئلة ابي
بعد الحرب تزوج ابي واستقر في جبال النمسا قرب الحدود الايطالية واليوڠوسلاڤية. ووُلدت هناك في السنة ١٩٢٠، وكنت البكر بين ستة اولاد. وعندما كنت في السادسة من العمر، انتقلنا شرقا الى بلدة سانت مارتين التي تبعد اميالا قليلة، قرب منتجع پورتْشاخ.
وبينما كنا نعيش هناك، قام خدام دينيون من شهود يهوه (كانوا يدعون آنذاك تلاميذ الكتاب المقدس) بزيارة والديَّ. وفي السنة ١٩٢٩ تركوا لدينا كراس الازدهار اكيد الذي اجاب عن الكثير من اسئلة ابي. فقد اظهر من الكتاب المقدس ان العالم يسيطر عليه حاكم غير منظور يدعى ابليس والشيطان. (يوحنا ١٢:٣١؛ ٢ كورنثوس ٤:٤؛ رؤيا ١٢:٩) وتأثيره في الدين، السياسة، والتجارة في هذا العالم كان مسؤولا عن الاهوال التي رآها ابي في الحرب العالمية الاولى. وأخيرا وجد ابي الاجوبة التي كان يبحث عنها.
خدمة غيورة
طلب ابي مطبوعات من جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس وابتدأ يوزِّعها على اقربائه ثم من بيت الى بيت. وما لبث ان انضم اليه هانس شتوسير، شاب من الجيران في الـ ٢٠ من العمر فقط، في الخدمة من بيت الى بيت. وسرعان ما صار خمسة من اقربائنا شهودا ايضا — عمي فرانز، زوجته آنا، ثم ابنهما آنتون، عمتي ماريا، وزوجها هرْمان.
فأثار ذلك ضجة عارمة في بلدتنا الصغيرة سانت مارتين. وفي المدرسة سألت تلميذةٌ معلِّما كاثوليكيا يعلِّمنا الدين: «ايها الاب لوْيڠه، مَن هو الاله الجديد يهوه الذي يعبده ڤولْفارْت؟»
فأجاب الكاهن: «لا لا يا اولاد. انه ليس الها جديدا. فيهوه هو ابو يسوع المسيح. وإذا كانوا ينشرون الرسالة بدافع المحبة لذلك الاله، فهذا امر جيد جدا.»
اتذكر ابي يغادر مرارا كثيرة البيت الساعة ٠٠:١ بعد منتصف الليل محمَّلا مطبوعات الكتاب المقدس ومعه شطيرة. وبعد ست او سبع ساعات كان يبلغ ابعد نقطة في مقاطعته الكرازية، قرب الحدود الايطالية. وكنت ارافقه في الرحلات الاقصر.
ورغم خدمته العلنية، لم يهمل والدي حاجات عائلته الروحية. فعندما كنت في العاشرة من العمر تقريبا، ابتدأ بدرس اسبوعي قانوني في الكتاب المقدس معنا نحن الستة جميعا، مستعينا بكتاب قيثارة اللّٰه. وفي اوقات اخرى كان البيت يغصُّ بالجيران والاقرباء المهتمين. وسرعان ما تشكَّلت جماعة من ٢٦ مناديا بالملكوت في بلدتنا الصغيرة.
هتلر يتبوَّأ السلطة
تبوَّأ هتلر السلطة في المانيا في السنة ١٩٣٣، وبعيد ذلك ازداد اضطهاد شهود يهوه. وفي السنة ١٩٣٧ حضر والدي محفلا في پراڠ، تشيكوسلوڤاكيا. وحُذِّر حاضرو المحفل من محن ستأتي، لذلك حثَّنا ابي جميعا عند عودته على الاستعداد للاضطهاد.
في ذلك الوقت، وأنا في الـ ١٦ من عمري، ابتدأت اتعلَّم مهنة الدهانة. كنت اعيش مع معلِّم دهانة وأذهب الى مدرسة مهنية. وكان كاهن متقدِّم في السن ترك المانيا هربا من النظام النازي يدير صفا للتعليم الديني في المدرسة. وعندما كان التلاميذ يحيّونه بعبارة «هايل هتلر!» كان يُظهر استياءه ويسأل: «ماذا حدث لإيماننا؟»
استغللت الفرصة وسألته لماذا يستعمل الكاثوليك القابا مثل «نيافتكم» و«الاب الاقدس،» اذ قال يسوع ان جميع أتباعه هم اخوة. (متى ٢٣:٨-١٠) فاعترف الكاهن ان فعل ذلك خطأ وأنه هو نفسه كان في ورطة بسبب رفضه الانحناء امام الاسقف وتقبيل يده. فسألته: «وكيف يجوز قتل الرفقاء الكاثوليك بمباركة الكنيسة؟»
فهتف الكاهن قائلا: «انه اكبر عار! هذا امر لا يجب ان يحدث مرة اخرى. فنحن مسيحيون ويجب على الكنيسة ان لا تتورط في الحرب.»
في ١٢ آذار ١٩٣٨، دخل هتلر النمسا دون مقاومة وما لبث ان جعلها جزءا من المانيا. وسرعان ما دعمته الكنائس. وفي الواقع، بعد اقل من اسبوع، وقَّع الاساقفة النمساويون الستة جميعهم، بمن فيهم الكردينال تيودور إنِتْسر، «اعلانا رسميا» مؤيِّدا، ذكروا فيه انه في الانتخابات القادمة «من الضروري ومن واجبنا الوطني كألمان ان نصوِّت نحن الاساقفة للرايخ الالماني.» (انظروا الصفحة ٨.) وجرى حفل استقبال في ڤيينا كان فيه الكردينال إنِتْسر بين اول مَن حيّوا هتلر بالتحية النازية. وأمر الكردينال جميع الكنائس النمساوية بأن ترفع اعلام الصليب المعقوف، تدق اجراسها، وتصلي للدكتاتور النازي.
تغيَّرت الاجواء السياسية في النمسا كما لو ان ذلك حدث بين ليلة وضحاها. وانتشرت فجأة قوات العاصفة ببدلاتها البنية وعصائب اليد التي تحمل اشارة الصليب المعقوف. والكاهن الذي كان قد قال انه يجب ان لا تتورط الكنيسة في الحرب كان احد الكهنة القليلين الذي رفضوا ان يقولوا «هايل هتلر!» وفي الاسبوع التالي حلّ محله كاهن آخر. وأول ما فعله عند دخوله الصف كان ضرب عقبي حذائه احداهما بالاخرى، رفع يده لتأدية التحية، والقول: «هايل هتلر!»
الضغط للامتثال
تعرض الجميع للضغط من النازيين. وعندما كنت احيّي الناس قائلا «ڠوتن تاڠ» (طاب يومكم) بدلا من «هايل هتلر،» كانوا يغضبون. وقد أُبلغ الڠستاپو عني نحو ١٢ مرة. وذات مرة انذرت فرقة من قوات العاصفة معلِّمَ الدهانة الذي اعيش معه بأنني اذا لم اؤدِّ التحية وأنضمَّ الى الشبيبة الهتلرية، فسأُرسَل الى معسكر اعتقال. فطلب منهم الدهَّان، وهو متعاطف مع النازيين، ان يصبروا عليَّ لأنه متأكد انني سأتغير في النهاية. وأوضح لهم انه لا يريد ان يخسرني لأني عامل جيد.
ومع تولّي النازيين السلطة، كانت تنطلق مسيرات كبيرة تستمر حتى وقت متأخر من الليل، وكان الناس يصيحون مطلقين الشعارات بحماس بالغ. وكل يوم كانت تدوِّي اصوات هتلر، ڠوبلز، وغيرهما عبر الاذاعات التي تبثّ خطاباتهم. وازداد خضوع الكنيسة الكاثوليكية لهتلر، فيما كان الكهنة يواظبون على الصلاة وطلب البركة من اجل هتلر.
ذكَّرني ابي بالحاجة الى اتخاذ موقف ثابت ونذر حياتي ليهوه والاعتماد. وحدَّثني ايضا عن ماريا شتوسير، شقيقة جارنا هانس الصغرى، التي اتخذت موقفا الى جانب الحق. فاتفقت مع ماريا على الزواج، وحثَّني والدي على ان اكون مصدر تشجيع لها روحيا. وفي تموز ١٩٣٩ قام هانس اخو ماريا بتعميدنا معا.
استقامة ابي المثالية
في اليوم التالي استُدعي ابي الى الخدمة العسكرية. ورغم انه كان من الممكن ان تحول صحته الضعيفة بسبب الصعوبات التي عاناها خلال الحرب العالمية الاولى دون خدمته هذه، قال والدي للذين اجروا المقابلة معه انه كمسيحي لن يتورط ابدا في الحرب من جديد كما فعل عندما كان كاثوليكيا. فأُبقي قيد الاعتقال لمزيد من التحقيق بسبب هذه الملاحظة.
وبعد اسبوعين، عندما غزت المانيا پولندا، مما اشعل نار الحرب العالمية الثانية، أُخذ الى ڤيينا. وفيما هو معتقَل هناك، كتب محافظ مقاطعتنا رسالة ادعى فيها ان ابي مسؤول عن رفض شهود آخرين دعم هتلر ولذلك يجب ان يُعدم ابي. ونتيجة لذلك، أُرسل ابي الى برلين، وحُكم عليه بعيد ذلك بقطع الرأس. وأُبقي مقيَّدا بسلاسل ليلا ونهارا في سجن مُوابِيت.
وفي ذلك الوقت كتبتُ رسالة الى والدي نيابة عن العائلة وأخبرته اننا مصممون على اتِّباع مثاله الامين. ولم يكن ابي عموما رجلا عاطفيا، ولكن كان بإمكاننا ان نرى كيف شعر عندما كانت رسالته الاخيرة الينا مبلَّلة بقطرات الدمع. لقد كان سعيدا جدا اننا تفهَّمنا موقفه. وأرسل كلمات تشجيع، ذاكرا كل واحد منا افراديا باسمه وحاثًّا ايانا على البقاء امناء. وكان رجاء القيامة عنده قويا.
كان هنالك نحو ٢٤ شاهدا آخر غير ابي معتقَلين في سجن مُوابِيت. وحاول مسؤولون رفيعو الشأن لدى هتلر ان يقنعوهم بالتخلي عن ايمانهم، انما دون جدوى. وفي كانون الاول ١٩٣٩، أُعدم نحو ٢٥ شاهدا. وعندما علمَت امي بإعدام ابي، عبَّرت عن مدى شكرها ليهوه لأنه منح ابي القوة للبقاء امينا حتى الموت.
امتحاناتي تبدأ
بعد اسابيع قليلة، استُدعيت الى الخدمة العمّالية لكني سرعان ما ادركت ان النشاط الرئيسي كان تدريبا عسكريا. فأوضحتُ انني لن اخدم في الجيش انما سأقوم بعمل آخر. ولكن عندما رفضت انشاد اناشيد القتال النازية، غضب الضباط.
في الصباح التالي مثلتُ بالثياب المدنية بدلا من البدلة العسكرية التي أُعطيت لنا. فقال الضابط المسؤول انه لا خيار لديه الا ان يضعني في الزنزانة. وهناك صار الخبز والماء قوتي. وعلمت لاحقا انه سيجري احتفال لتحية العلم، وحُذِّرت من انَّ رفض المشاركة سيؤدي الى رميي بالرصاص.
كان هنالك في ميدان التدريب ٣٠٠ مجنَّد بالاضافة الى ضباط عسكريين. وأُمرتُ بأن امرَّ امام الضباط وعلم الصليب المعقوف وأؤدي التحية الهتلرية. فاستمددتُ القوة الروحية من رواية الكتاب المقدس عن العبرانيين الثلاثة ولم اقل الّا «ڠوتن تاڠ» (طاب يومكم) اثناء مروري. (دانيال ٣:١-٣٠) فأُمرت بأن امرَّ امامهم من جديد. وهذه المرة لم اقل شيئا، انما ابتسمت فقط.
عندما اقتادني اربعة ضباط الى الزنزانة، قالوا لي انهم كانوا يرتعدون لأنهم توقعوا ان أُرمى بالرصاص. وسألوني: «كيف امكنك ان تبتسم ونحن كنا متوتري الاعصاب جدا؟» وقالوا انهم يتمنون ان تكون لديهم شجاعتي.
بعد ايام قليلة، وصل الى المعسكر الدكتور ألمَندِنڠِر، ضابط رفيع الشأن من مركز قيادة هتلر في برلين. فاستُدعيت للمثول امامه. وأوضح لي ان القوانين صارت اشدّ صرامة. وقال: «انت لا تدرك ما سيواجهك.»
فأجبت: «بلى ادرك. فقد قُطع رأس ابي للسبب نفسه منذ اسابيع قليلة فقط.» فصُعق ولزم الصمت.
وبعد ذلك وصل ضابط آخر رفيع الشأن من برلين، وجرى القيام بمحاولات اضافية لحملي على تغيير فكري. وبعد ان استمع الى السبب الذي من اجله لا اخالف شرائع اللّٰه، امسك بيدي والدموع تنهمر على وجهه وقال: «اريد ان انقذ حياتك!» وتأثر كثيرا جميع الضباط الذين كانوا يشاهدون ما يجري. ثم أُخذتُ الى الزنزانة حيث قضيت ما مجموعه ٣٣ يوما.
المحاكمة والسجن
في آذار ١٩٤٠، نُقلت الى سجن في مدينة فورسْتِنْفَلْت. وبعد ايام قليلة قامت خطيبتي ماريا وأخي ڠريڠور بزيارتي. كان ڠريڠور اصغر مني بسنة ونصف فقط، وكان قد اتخذ موقفا ثابتا الى جانب الحق في المدرسة. وأتذكره يحث اخوتنا الاصغر على الاستعداد للاضطهاد، قائلا ان الامر الوحيد لفعله هو خدمة يهوه. والساعات الثمينة التي قضيناها نشجع واحدنا الآخر كانت المرة الاخيرة التي اراه فيها حيًّا. ولاحقا، حُكم عليَّ في مدينة ڠراتْس بالاشغال الشاقة لخمس سنوات.
في خريف السنة ١٩٤٠، وُضعت في قطار متجه الى معسكر للعمل في تشيكوسلوڤاكيا، لكني احتُجزت في ڤيينا ووُضعت في سجن هناك. كانت الحالة مريعة. فلم اكن اعاني من الجوع فقط، بل كان بقٌّ ضخم يلسعني في الليل مما جعل لحمي ينزف مع احساسٍ بحروق. ولأسباب لم اكن اعرفها آنذاك، اعادوني الى السجن في ڠراتْس.
كانت قضيتي محطَّ اهتمام لأن الڠستاپو وصف شهود يهوه بشهداء متعصبين يريدون عقوبة الموت لكي ينالوا مكافأة سماوية. وبسبب ذلك، سنحت لي فرصة لا تُفوَّت للتكلم طوال يومين امام پروفسور وثمانية طلاب من جامعة ڠراتْس، موضحا ان ٠٠٠,١٤٤ شخص فقط سيؤخذون الى السماء ليحكموا مع المسيح. (رؤيا ١٤:١-٣) وقلت ان رجائي هو التمتع بحياة ابدية في احوال فردوسية على الارض. — مزمور ٣٧:٢٩؛ رؤيا ٢١:٣، ٤.
بعد يومين من الاستجواب، قال الپروفسور: «لقد توصلت الى الاستنتاج انك منطقي وأن رجلَيك على هذه الارض. فأنت لا ترغب في الموت والذهاب الى السماء.» وعبَّر عن الحزن بشأن اضطهاد شهود يهوه وتمنى لي الخير.
في اوائل السنة ١٩٤١، وجدت نفسي على متن قطار متجه الى معسكر رولْوالْت للاشغال الشاقة في المانيا.
حياة المعسكر القاسية
كان رولْوالْت يقع بين مدينتي فرانكفورت ودارمشتات ويسع نحو ٠٠٠,٥ سجين. وكان كلُّ يوم يبدأ في الخامسة صباحا بتفقُّد السجناء بالمناداة بالاسماء، الامر الذي كان يستغرق نحو ساعتين، لأن الضباط كانوا يجدِّدون قائمة السجناء لديهم بتمهُّل. وكان يُطلب منا ان نقف بلا حراك، وقد ضُرب سجناء كثيرون بقسوة لأنهم لم يقفوا بشكل ثابت تماما.
كان الفطور يتألف من خبز مصنوع من الطحين، النشارة، والبطاطا التي غالبا ما كانت متعفنة. ثم كنا نذهب الى العمل في المستنقع، حافرين خنادق لتجفيف الارض لأهداف زراعية. وبعد العمل طوال النهار في المستنقع من غير احذية ملائمة، كانت اقدامنا تنتفخ كالاسفنج. وذات مرة، أُصيبت قدماي بما بدا انه الغنغرينا، وخشيت ان يصير بترهما لازما.
في وقت الظهيرة عند موقع العمل، كان يُقدَّم لنا مزيج اختباري غريب زُعم انه حساء. وكان يُطيَّب باللفت او الملفوف ويحتوي احيانا على الجثث المطحونة لحيوانات مريضة. وكنا نشعر وكأن افواهنا وحلوقنا تحترق، وأُصيب كثيرون منا بدمامل كبيرة. وفي المساء كنا نحصل على المزيد من «الحساء.» وفقد سجناء كثيرون اسنانهم، لكنه قيل لي انه من المهم ابقاء الاسنان تعمل. فكنت اعضِّض قطعة من خشب الصنوبر او اغصان البندق، ولم افقد اسناني قط.
البقاء قويا روحيا
وفي محاولة لكسر ايماني، عزلني الحراس عن ايّ اتصال بشهود آخرين. وبما انني لم املك مطبوعات للكتاب المقدس، كنت اتذكر الآيات التي حفظتها، كالامثال ٣:٥، ٦، التي تحثنا على ‹الوثوق بيهوه بكل قلبنا،› و ١ كورنثوس ١٠:١٣، التي تعد بأن يهوه لن ‹يدعنا نجرَّب فوق ما نستطيع.› وبمراجعة آيات كهذه في ذهني وبالاتكال على يهوه في الصلاة، تقوَّيت.
كان بإمكاني احيانا رؤية شاهد يُنقل من معسكر آخر. وإذا لم تسنح لنا فرصة للتكلم، كنا نشجع واحدنا الآخر على البقاء ثابتين بإيماءة رأس او برفع قبضة اليد. وكنت من حين الى آخر اتلقى رسائل من ماريا وأمي. وفي احدى هذه الرسائل علمت بوفاة اخي العزيز ڠريڠور، وعلمت في اخرى، نحو نهاية الحرب، بخبر اعدام هانس شتوسير، شقيق ماريا.
وفي وقت لاحق، نُقل الى معسكرنا سجين كان يعرف ڠريڠور عندما كانا معا في سجن مُوابِيت في برلين. وعرفت منه تفاصيل ما حدث. فقد حُكم على ڠريڠور بالموت بالمقصلة، ولكن في محاولة لكسر استقامته، مُدِّدَت فترة الانتظار المعتادة قبل الاعدام الى اربعة اشهر. وخلال ذلك الوقت مورسَت عليه كل انواع الضغوط لحمله على المسايرة — رُبطت يداه وقدماه بسلاسل ثقيلة، ونادرا ما كان يُطعَم. لكنه لم يتضعضع. لقد كان امينا حتى النهاية — في ١٤ آذار ١٩٤٢. ومع ان الخبر احزنني، فقد قواني لأبقى امينا ليهوه مهما حدث.
وعلى مر الوقت علمت بأن اخويَّ الاصغرَين كريستيان وڤِلِيبالْت وأختيَّ الصغريَين إيدا وآني أُخذوا الى دير يُستخدم كبيت اصلاحي في مدينة لانْداو في المانيا. وقد ضُرب الصبيَّان بشدة لأنهما رفضا تأدية تحية هتلر.
فرص للشهادة
كان معظم الموجودين في الثكنة حيث اعيش سجناء سياسيين ومجرمين. وغالبا ما كنت اقضي الامسيات اشهد لهم. وكان احدهم كاهنا كاثوليكيا من كاپْفنْبرڠ يدعى يوهان لِسْت. فقد سُجن لأنه كلَّم رعيته عن امور سمعها عبر الاذاعة البريطانية.
كان السجن صعبا جدا على يوهان لأنه لم يكن معتادا الاشغال الجسدية الشاقة. وكان رجلا لطيفا، وكنت اساعده على اتمام حصته من العمل لكي لا يقع في ورطة. وقال انه خجل لأنه مسجون لأسباب سياسية لا بسبب التصاقه بالمبادئ المسيحية. وقال: «انت فعلا تتألم كمسيحي.» وعندما أُطلق سراحه بعد سنة تقريبا، وعدني بزيارة امي وخطيبتي، وقد وفى بوعده.
حياتي تتحسن
في اواخر السنة ١٩٤٣، اتانا آمر معسكر جديد يدعى كارل شتومپْف، رجل طويل وأشيب ابتدأ يحسِّن الاوضاع في معسكرنا. وكان من المقرَّر ان تُدهن الڤيلّا التي له، وعندما علم ان مهنتي هي الدهانة، أُعطيت لي الوظيفة. وكانت هذه المرةَ الاولى التي فيها يُطلب مني العمل بعيدا عن المستنقع.
كانت زوجة الآمر تلاقي صعوبة في فهم سبب سجني، مع ان زوجها اوضح لها ان السبب هو ايماني كواحد من شهود يهوه. فأشفقت عليَّ لأني كنت نحيلا جدا وأطعمتني. ودبَّرت امر حصولي على وظائف اضافية لأتمكن من استعادة وزني الطبيعي.
وعندما استُدعي سجناء من المعسكر لكي يقاتلوا في الصفوف الامامية نحو نهاية السنة ١٩٤٣، انقذتني علاقتي الجيدة بالآمر شتومپْف. فقد اوضحتُ له انني افضِّل الموت على ان اصير مذنبا بسفك الدم بالاشتراك في الحرب. ومع ان موقفي من جهة الحياد يجعله في مأزق حرج، فقد تمكن من عدم ادراج اسمي في قائمة الذين استُدعوا.
آخر ايام الحرب
خلال شهري كانون الثاني وشباط من السنة ١٩٤٥، شجَّعتنا الطائرات الاميركية التي كانت تطير على ارتفاع منخفض وتلقي اوراقا صغيرة ذُكر فيها ان الحرب قاربت النهاية. فأعطاني الآمر شتومپْف الذي انقذ حياتي ثيابا مدنية وعرض ان تكون الڤيلّا التي له مخبأً لي. وعندما غادرت المعسكر، رأيت الفوضى تعمّ المكان. مثلا، كان هنالك اولاد بعدّتهم ولباسهم الحربي والدموع تنهمر على وجوههم يهربون من امام الاميركيين. وخوفا من ان التقي ضباطا من وحدات الحماية SS يتساءلون لماذا لا احمل سلاحا، قررت العودة الى المعسكر.
وسرعان ما احاط الجنود الاميركيون بمعسكرنا بشكل تام. وفي ٢٤ آذار ١٩٤٥ استسلم المعسكر، رافعا اعلاما بيضاء. وكم فوجئت عندما علمت انه كان هنالك شهود آخرون في المعسكر حال الآمر شتومپْف دون اعدامهم. وكم كانت فرحة التقائنا كبيرة! وعندما سُجن الآمر شتومپْف، اقترب كثيرون منا الى الضباط الاميركيين وشهدنا شخصيا وبواسطة الرسائل لمصلحته. ولذلك أُطلق سراحه بعد ثلاثة ايام.
لدهشتي، كنت اول الـ ٠٠٠,٥ سجين تقريبا الذين سُمح لهم بالخروج احرارا. فبعد خمس سنين من السجن، شعرت كما لو انني احلم. فشكرت يهوه في الصلاة ودموع الفرح تطفر من عينيَّ لأنه حفظني حيا. ولم تستسلم المانيا حتى ٧ ايار ١٩٤٥، اي بعد ستة اسابيع تقريبا.
عندما أُطلق سراحي، اتصلت بسرعة بالشهود الآخرين في المنطقة. ونُظِّم فريق لدرس الكتاب المقدس، وخلال الاسابيع التالية، قضيت ساعات كثيرة اشهد للناس في المنطقة المحيطة بالمعسكر. وفي الوقت نفسه، حصلت على عمل كدهَّان.
العودة الى البيت
في شهر تموز، تمكنت من شراء دراجة نارية، وبدأت حينئذ رحلتي الطويلة الى البيت. واستغرقت الرحلة اياما عديدة لأنه كان قد فُجِّر الكثير من الجسور على طول الطريق. وعندما وصلت اخيرا الى بلدتي سانت مارتين، تابعت طريقي ورأيت ماريا تحصد الحنطة. وعندما عرفتني اخيرا، ركضت اليَّ. ويمكنكم ان تتخيلوا اللقاء السعيد. ورمت امي منجلها وركضت اليَّ. والآن، بعد ٤٩ سنة، تبلغ امي الـ ٩٦ من العمر وهي عمياء. لكنَّ ذهنها لا يزال صافيا، ولا تزال شاهدة امينة ليهوه.
تزوجنا ماريا وأنا في تشرين الاول ١٩٤٥، وفي السنوات التي تلت، تمتعنا بخدمة يهوه معا. وبوركنا بثلاث بنات، ابن، وستة حفداء، وجميعهم يخدمون يهوه بغيرة. وقد سُررت على مرّ السنين بمساعدة اعداد كبيرة من الاشخاص على اتخاذ موقف الى جانب حق الكتاب المقدس.
الشجاعة للاحتمال
سئلتُ مرارا كثيرة كيف تمكنت، مع اني كنت مجرد حدث، من مواجهة الموت دون خوف. تأكدوا ان يهوه اللّٰه يمنح القدرة على الاحتمال اذا كنتم مصممين على البقاء اولياء. والاتكال عليه كاملا بواسطة الصلاة هو امر يمكن تعلُّمه بسرعة كبيرة. ومعرفتي ان آخرين، بمن فيهم ابي وأخي، احتملوا بأمانة حتى الموت ساعدتني ايضا على البقاء وليًّا.
لم تكن اوروپا المكان الوحيد الذي لم ينحز فيه شعب يهوه في الحرب. فأنا اتذكر انه خلال محاكمات نورمبورڠ في السنة ١٩٤٦، سئل احد المسؤولين الرفيعي الشأن لدى هتلر عن اضطهاد شهود يهوه في معسكرات الاعتقال. فأخرج من جيبه قُصاصة ورد فيها ان الآلاف من شهود يهوه في الولايات المتحدة أُدخلوا السجون الاميركية بسبب حيادهم خلال الحرب العالمية الثانية.
فعلا، يتبع المسيحيون الحقيقيون مثال يسوع المسيح الذي حافظ على الاستقامة امام اللّٰه حتى الرمق الاخير. وحتى هذا اليوم افكر كثيرا في الـ ١٤ فردا من افراد جماعتنا الصغيرة في سانت مارتين خلال ثلاثينيات الـ ١٩٠٠ الذين، بدافع محبتهم للّٰه ورفيقهم الانسان، رفضوا دعم حرب هتلر وقُتلوا لهذا السبب. ويا للّقاء العظيم الذي سيتمّ عندما يُبعثون ليتمتعوا بالحياة الى الابد في عالم اللّٰه الجديد!
[الصورة في الصفحة ٩]
والدي
[الصورتان في الصفحتين ٨ و ٩]
في الاسفل وإلى اليسار: الكردينال إنِتْسر يصوِّت دعما للرايخ الالماني
الى اليمين: «الاعلان الرسمي» الذي فيه صرَّح الاساقفة الستة انه ‹من واجبهم الوطني التصويت للرايخ الالماني›
[مصدر الصورة]
UPI/Bettmann
[الصورة في الصفحة ١٠]
في السنة ١٩٣٩، خطبت ماريا
[الصورة في الصفحة ١٣]
عائلتنا. من اليسار الى اليمين: ڠريڠور (قُطع رأسه)، آني، فرانز، ڤِلِيبالْت، إيدا، ڠريڠور (الاب، قُطع رأسه)، باربرا (الام)، وكريستيان
[الصورة في الصفحة ١٥]
مع ماريا اليوم