مكتبة برج المراقبة الإلكترونية
برج المراقبة
المكتبة الإلكترونية
العربية
  • الكتاب المقدس
  • المطبوعات
  • الاجتماعات
  • ع٩٤ ٢٢/‏١٠ ص ٨-‏١٥
  • لم ندعم حرب هتلر

لا تتوفر فيديوات للجزء الذي اخترته.‏‏

عذرًا، حصل خطأ عند تشغيل الفيديو.‏

  • لم ندعم حرب هتلر
  • استيقظ!‏ ١٩٩٤
  • العناوين الفرعية
  • مواد مشابهة
  • اجوبة عن اسئلة ابي
  • خدمة غيورة
  • هتلر يتبوَّأ السلطة
  • الضغط للامتثال
  • استقامة ابي المثالية
  • امتحاناتي تبدأ
  • المحاكمة والسجن
  • حياة المعسكر القاسية
  • البقاء قويا روحيا
  • فرص للشهادة
  • حياتي تتحسن
  • آخر ايام الحرب
  • العودة الى البيت
  • الشجاعة للاحتمال
  • نجونا بعون يهوه من قبضة نظامَين مستبدَّين
    برج المراقبة تعلن ملكوت يهوه —‏ ٢٠٠٧
  • ماذا عساي أردّ ليهوه؟‏
    برج المراقبة تعلن ملكوت يهوه —‏ ٢٠٠٩
  • تحوَّل بغضي الى محبة
    استيقظ!‏ ١٩٩٥
  • المحافظة على الاستقامة في المانيا النازية
    استيقظ!‏ ١٩٩٣
المزيد
استيقظ!‏ ١٩٩٤
ع٩٤ ٢٢/‏١٠ ص ٨-‏١٥

لم ندعم حرب هتلر

كما رواها فرانز ڤولْفارْت

خدم والدي ڠريڠور ڤولْفارْت في الجيش النمساوي خلال الحرب العالمية الاولى (‏١٩١٤ الى ١٩١٨)‏ وحارب ايطاليا.‏ وقد قُتل مئات الآلاف من النمساويين والايطاليين.‏ فغيَّرَت اهوال هذا الاختبار كليا نظرة ابي الى الدين والحرب.‏

رأى والدي كهنة نمساويين يباركون الجنود،‏ وعلم ان الكهنة الايطاليين في الجانب الآخر كانوا يفعلون الامر عينه.‏ فكان يسأل:‏ «لماذا يُدفع الجنود الكاثوليك الى قتل كاثوليك آخرين؟‏ وهل يجب على المسيحيين ان يخوضوا الحرب واحدهم ضد الآخر؟‏» إلا انه لم تكن عند الكهنة اجوبة مرضية.‏

اجوبة عن اسئلة ابي

بعد الحرب تزوج ابي واستقر في جبال النمسا قرب الحدود الايطالية واليوڠوسلاڤية.‏ ووُلدت هناك في السنة ١٩٢٠،‏ وكنت البكر بين ستة اولاد.‏ وعندما كنت في السادسة من العمر،‏ انتقلنا شرقا الى بلدة سانت مارتين التي تبعد اميالا قليلة،‏ قرب منتجع پورتْشاخ.‏

وبينما كنا نعيش هناك،‏ قام خدام دينيون من شهود يهوه (‏كانوا يدعون آنذاك تلاميذ الكتاب المقدس)‏ بزيارة والديَّ.‏ وفي السنة ١٩٢٩ تركوا لدينا كراس الازدهار اكيد الذي اجاب عن الكثير من اسئلة ابي.‏ فقد اظهر من الكتاب المقدس ان العالم يسيطر عليه حاكم غير منظور يدعى ابليس والشيطان.‏ (‏يوحنا ١٢:‏٣١؛‏ ٢ كورنثوس ٤:‏٤؛‏ رؤيا ١٢:‏٩‏)‏ وتأثيره في الدين،‏ السياسة،‏ والتجارة في هذا العالم كان مسؤولا عن الاهوال التي رآها ابي في الحرب العالمية الاولى.‏ وأخيرا وجد ابي الاجوبة التي كان يبحث عنها.‏

خدمة غيورة

طلب ابي مطبوعات من جمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس وابتدأ يوزِّعها على اقربائه ثم من بيت الى بيت.‏ وما لبث ان انضم اليه هانس شتوسير،‏ شاب من الجيران في الـ‍ ٢٠ من العمر فقط،‏ في الخدمة من بيت الى بيت.‏ وسرعان ما صار خمسة من اقربائنا شهودا ايضا —‏ عمي فرانز،‏ زوجته آنا،‏ ثم ابنهما آنتون،‏ عمتي ماريا،‏ وزوجها هرْمان.‏

فأثار ذلك ضجة عارمة في بلدتنا الصغيرة سانت مارتين.‏ وفي المدرسة سألت تلميذةٌ معلِّما كاثوليكيا يعلِّمنا الدين:‏ «ايها الاب لوْيڠه،‏ مَن هو الاله الجديد يهوه الذي يعبده ڤولْفارْت؟‏»‏

فأجاب الكاهن:‏ «لا لا يا اولاد.‏ انه ليس الها جديدا.‏ فيهوه هو ابو يسوع المسيح.‏ وإذا كانوا ينشرون الرسالة بدافع المحبة لذلك الاله،‏ فهذا امر جيد جدا.‏»‏

اتذكر ابي يغادر مرارا كثيرة البيت الساعة ٠٠:‏١ بعد منتصف الليل محمَّلا مطبوعات الكتاب المقدس ومعه شطيرة.‏ وبعد ست او سبع ساعات كان يبلغ ابعد نقطة في مقاطعته الكرازية،‏ قرب الحدود الايطالية.‏ وكنت ارافقه في الرحلات الاقصر.‏

ورغم خدمته العلنية،‏ لم يهمل والدي حاجات عائلته الروحية.‏ فعندما كنت في العاشرة من العمر تقريبا،‏ ابتدأ بدرس اسبوعي قانوني في الكتاب المقدس معنا نحن الستة جميعا،‏ مستعينا بكتاب قيثارة اللّٰه.‏ وفي اوقات اخرى كان البيت يغصُّ بالجيران والاقرباء المهتمين.‏ وسرعان ما تشكَّلت جماعة من ٢٦ مناديا بالملكوت في بلدتنا الصغيرة.‏

هتلر يتبوَّأ السلطة

تبوَّأ هتلر السلطة في المانيا في السنة ١٩٣٣،‏ وبعيد ذلك ازداد اضطهاد شهود يهوه.‏ وفي السنة ١٩٣٧ حضر والدي محفلا في پراڠ،‏ تشيكوسلوڤاكيا.‏ وحُذِّر حاضرو المحفل من محن ستأتي،‏ لذلك حثَّنا ابي جميعا عند عودته على الاستعداد للاضطهاد.‏

في ذلك الوقت،‏ وأنا في الـ‍ ١٦ من عمري،‏ ابتدأت اتعلَّم مهنة الدهانة.‏ كنت اعيش مع معلِّم دهانة وأذهب الى مدرسة مهنية.‏ وكان كاهن متقدِّم في السن ترك المانيا هربا من النظام النازي يدير صفا للتعليم الديني في المدرسة.‏ وعندما كان التلاميذ يحيّونه بعبارة «هايل هتلر!‏» كان يُظهر استياءه ويسأل:‏ «ماذا حدث لإيماننا؟‏»‏

استغللت الفرصة وسألته لماذا يستعمل الكاثوليك القابا مثل «نيافتكم» و«الاب الاقدس،‏» اذ قال يسوع ان جميع أتباعه هم اخوة.‏ (‏متى ٢٣:‏٨-‏١٠‏)‏ فاعترف الكاهن ان فعل ذلك خطأ وأنه هو نفسه كان في ورطة بسبب رفضه الانحناء امام الاسقف وتقبيل يده.‏ فسألته:‏ «وكيف يجوز قتل الرفقاء الكاثوليك بمباركة الكنيسة؟‏»‏

فهتف الكاهن قائلا:‏ «انه اكبر عار!‏ هذا امر لا يجب ان يحدث مرة اخرى.‏ فنحن مسيحيون ويجب على الكنيسة ان لا تتورط في الحرب.‏»‏

في ١٢ آذار ١٩٣٨،‏ دخل هتلر النمسا دون مقاومة وما لبث ان جعلها جزءا من المانيا.‏ وسرعان ما دعمته الكنائس.‏ وفي الواقع،‏ بعد اقل من اسبوع،‏ وقَّع الاساقفة النمساويون الستة جميعهم،‏ بمن فيهم الكردينال تيودور إنِتْسر،‏ «اعلانا رسميا» مؤيِّدا،‏ ذكروا فيه انه في الانتخابات القادمة «من الضروري ومن واجبنا الوطني كألمان ان نصوِّت نحن الاساقفة للرايخ الالماني.‏» (‏انظروا الصفحة ٨.‏)‏ وجرى حفل استقبال في ڤيينا كان فيه الكردينال إنِتْسر بين اول مَن حيّوا هتلر بالتحية النازية.‏ وأمر الكردينال جميع الكنائس النمساوية بأن ترفع اعلام الصليب المعقوف،‏ تدق اجراسها،‏ وتصلي للدكتاتور النازي.‏

تغيَّرت الاجواء السياسية في النمسا كما لو ان ذلك حدث بين ليلة وضحاها.‏ وانتشرت فجأة قوات العاصفة ببدلاتها البنية وعصائب اليد التي تحمل اشارة الصليب المعقوف.‏ والكاهن الذي كان قد قال انه يجب ان لا تتورط الكنيسة في الحرب كان احد الكهنة القليلين الذي رفضوا ان يقولوا «هايل هتلر!‏» وفي الاسبوع التالي حلّ محله كاهن آخر.‏ وأول ما فعله عند دخوله الصف كان ضرب عقبي حذائه احداهما بالاخرى،‏ رفع يده لتأدية التحية،‏ والقول:‏ «هايل هتلر!‏»‏

الضغط للامتثال

تعرض الجميع للضغط من النازيين.‏ وعندما كنت احيّي الناس قائلا ‏«ڠوتن تاڠ»‏ (‏طاب يومكم)‏ بدلا من «هايل هتلر،‏» كانوا يغضبون.‏ وقد أُبلغ الڠستاپو عني نحو ١٢ مرة.‏ وذات مرة انذرت فرقة من قوات العاصفة معلِّمَ الدهانة الذي اعيش معه بأنني اذا لم اؤدِّ التحية وأنضمَّ الى الشبيبة الهتلرية،‏ فسأُرسَل الى معسكر اعتقال.‏ فطلب منهم الدهَّان،‏ وهو متعاطف مع النازيين،‏ ان يصبروا عليَّ لأنه متأكد انني سأتغير في النهاية.‏ وأوضح لهم انه لا يريد ان يخسرني لأني عامل جيد.‏

ومع تولّي النازيين السلطة،‏ كانت تنطلق مسيرات كبيرة تستمر حتى وقت متأخر من الليل،‏ وكان الناس يصيحون مطلقين الشعارات بحماس بالغ.‏ وكل يوم كانت تدوِّي اصوات هتلر،‏ ڠوبلز،‏ وغيرهما عبر الاذاعات التي تبثّ خطاباتهم.‏ وازداد خضوع الكنيسة الكاثوليكية لهتلر،‏ فيما كان الكهنة يواظبون على الصلاة وطلب البركة من اجل هتلر.‏

ذكَّرني ابي بالحاجة الى اتخاذ موقف ثابت ونذر حياتي ليهوه والاعتماد.‏ وحدَّثني ايضا عن ماريا شتوسير،‏ شقيقة جارنا هانس الصغرى،‏ التي اتخذت موقفا الى جانب الحق.‏ فاتفقت مع ماريا على الزواج،‏ وحثَّني والدي على ان اكون مصدر تشجيع لها روحيا.‏ وفي تموز ١٩٣٩ قام هانس اخو ماريا بتعميدنا معا.‏

استقامة ابي المثالية

في اليوم التالي استُدعي ابي الى الخدمة العسكرية.‏ ورغم انه كان من الممكن ان تحول صحته الضعيفة بسبب الصعوبات التي عاناها خلال الحرب العالمية الاولى دون خدمته هذه،‏ قال والدي للذين اجروا المقابلة معه انه كمسيحي لن يتورط ابدا في الحرب من جديد كما فعل عندما كان كاثوليكيا.‏ فأُبقي قيد الاعتقال لمزيد من التحقيق بسبب هذه الملاحظة.‏

وبعد اسبوعين،‏ عندما غزت المانيا پولندا،‏ مما اشعل نار الحرب العالمية الثانية،‏ أُخذ الى ڤيينا.‏ وفيما هو معتقَل هناك،‏ كتب محافظ مقاطعتنا رسالة ادعى فيها ان ابي مسؤول عن رفض شهود آخرين دعم هتلر ولذلك يجب ان يُعدم ابي.‏ ونتيجة لذلك،‏ أُرسل ابي الى برلين،‏ وحُكم عليه بعيد ذلك بقطع الرأس.‏ وأُبقي مقيَّدا بسلاسل ليلا ونهارا في سجن مُوابِيت.‏

وفي ذلك الوقت كتبتُ رسالة الى والدي نيابة عن العائلة وأخبرته اننا مصممون على اتِّباع مثاله الامين.‏ ولم يكن ابي عموما رجلا عاطفيا،‏ ولكن كان بإمكاننا ان نرى كيف شعر عندما كانت رسالته الاخيرة الينا مبلَّلة بقطرات الدمع.‏ لقد كان سعيدا جدا اننا تفهَّمنا موقفه.‏ وأرسل كلمات تشجيع،‏ ذاكرا كل واحد منا افراديا باسمه وحاثًّا ايانا على البقاء امناء.‏ وكان رجاء القيامة عنده قويا.‏

كان هنالك نحو ٢٤ شاهدا آخر غير ابي معتقَلين في سجن مُوابِيت.‏ وحاول مسؤولون رفيعو الشأن لدى هتلر ان يقنعوهم بالتخلي عن ايمانهم،‏ انما دون جدوى.‏ وفي كانون الاول ١٩٣٩،‏ أُعدم نحو ٢٥ شاهدا.‏ وعندما علمَت امي بإعدام ابي،‏ عبَّرت عن مدى شكرها ليهوه لأنه منح ابي القوة للبقاء امينا حتى الموت.‏

امتحاناتي تبدأ

بعد اسابيع قليلة،‏ استُدعيت الى الخدمة العمّالية لكني سرعان ما ادركت ان النشاط الرئيسي كان تدريبا عسكريا.‏ فأوضحتُ انني لن اخدم في الجيش انما سأقوم بعمل آخر.‏ ولكن عندما رفضت انشاد اناشيد القتال النازية،‏ غضب الضباط.‏

في الصباح التالي مثلتُ بالثياب المدنية بدلا من البدلة العسكرية التي أُعطيت لنا.‏ فقال الضابط المسؤول انه لا خيار لديه الا ان يضعني في الزنزانة.‏ وهناك صار الخبز والماء قوتي.‏ وعلمت لاحقا انه سيجري احتفال لتحية العلم،‏ وحُذِّرت من انَّ رفض المشاركة سيؤدي الى رميي بالرصاص.‏

كان هنالك في ميدان التدريب ٣٠٠ مجنَّد بالاضافة الى ضباط عسكريين.‏ وأُمرتُ بأن امرَّ امام الضباط وعلم الصليب المعقوف وأؤدي التحية الهتلرية.‏ فاستمددتُ القوة الروحية من رواية الكتاب المقدس عن العبرانيين الثلاثة ولم اقل الّا ‏«ڠوتن تاڠ»‏ (‏طاب يومكم)‏ اثناء مروري.‏ (‏دانيال ٣:‏١-‏٣٠‏)‏ فأُمرت بأن امرَّ امامهم من جديد.‏ وهذه المرة لم اقل شيئا،‏ انما ابتسمت فقط.‏

عندما اقتادني اربعة ضباط الى الزنزانة،‏ قالوا لي انهم كانوا يرتعدون لأنهم توقعوا ان أُرمى بالرصاص.‏ وسألوني:‏ «كيف امكنك ان تبتسم ونحن كنا متوتري الاعصاب جدا؟‏» وقالوا انهم يتمنون ان تكون لديهم شجاعتي.‏

بعد ايام قليلة،‏ وصل الى المعسكر الدكتور ألمَندِنڠِر،‏ ضابط رفيع الشأن من مركز قيادة هتلر في برلين.‏ فاستُدعيت للمثول امامه.‏ وأوضح لي ان القوانين صارت اشدّ صرامة.‏ وقال:‏ «انت لا تدرك ما سيواجهك.‏»‏

فأجبت:‏ «بلى ادرك.‏ فقد قُطع رأس ابي للسبب نفسه منذ اسابيع قليلة فقط.‏» فصُعق ولزم الصمت.‏

وبعد ذلك وصل ضابط آخر رفيع الشأن من برلين،‏ وجرى القيام بمحاولات اضافية لحملي على تغيير فكري.‏ وبعد ان استمع الى السبب الذي من اجله لا اخالف شرائع اللّٰه،‏ امسك بيدي والدموع تنهمر على وجهه وقال:‏ «اريد ان انقذ حياتك!‏» وتأثر كثيرا جميع الضباط الذين كانوا يشاهدون ما يجري.‏ ثم أُخذتُ الى الزنزانة حيث قضيت ما مجموعه ٣٣ يوما.‏

المحاكمة والسجن

في آذار ١٩٤٠،‏ نُقلت الى سجن في مدينة فورسْتِنْفَلْت.‏ وبعد ايام قليلة قامت خطيبتي ماريا وأخي ڠريڠور بزيارتي.‏ كان ڠريڠور اصغر مني بسنة ونصف فقط،‏ وكان قد اتخذ موقفا ثابتا الى جانب الحق في المدرسة.‏ وأتذكره يحث اخوتنا الاصغر على الاستعداد للاضطهاد،‏ قائلا ان الامر الوحيد لفعله هو خدمة يهوه.‏ والساعات الثمينة التي قضيناها نشجع واحدنا الآخر كانت المرة الاخيرة التي اراه فيها حيًّا.‏ ولاحقا،‏ حُكم عليَّ في مدينة ڠراتْس بالاشغال الشاقة لخمس سنوات.‏

في خريف السنة ١٩٤٠،‏ وُضعت في قطار متجه الى معسكر للعمل في تشيكوسلوڤاكيا،‏ لكني احتُجزت في ڤيينا ووُضعت في سجن هناك.‏ كانت الحالة مريعة.‏ فلم اكن اعاني من الجوع فقط،‏ بل كان بقٌّ ضخم يلسعني في الليل مما جعل لحمي ينزف مع احساسٍ بحروق.‏ ولأسباب لم اكن اعرفها آنذاك،‏ اعادوني الى السجن في ڠراتْس.‏

كانت قضيتي محطَّ اهتمام لأن الڠستاپو وصف شهود يهوه بشهداء متعصبين يريدون عقوبة الموت لكي ينالوا مكافأة سماوية.‏ وبسبب ذلك،‏ سنحت لي فرصة لا تُفوَّت للتكلم طوال يومين امام پروفسور وثمانية طلاب من جامعة ڠراتْس،‏ موضحا ان ٠٠٠‏,١٤٤ شخص فقط سيؤخذون الى السماء ليحكموا مع المسيح.‏ (‏رؤيا ١٤:‏١-‏٣‏)‏ وقلت ان رجائي هو التمتع بحياة ابدية في احوال فردوسية على الارض.‏ —‏ مزمور ٣٧:‏٢٩؛‏ رؤيا ٢١:‏٣،‏ ٤‏.‏

بعد يومين من الاستجواب،‏ قال الپروفسور:‏ «لقد توصلت الى الاستنتاج انك منطقي وأن رجلَيك على هذه الارض.‏ فأنت لا ترغب في الموت والذهاب الى السماء.‏» وعبَّر عن الحزن بشأن اضطهاد شهود يهوه وتمنى لي الخير.‏

في اوائل السنة ١٩٤١،‏ وجدت نفسي على متن قطار متجه الى معسكر رولْوالْت للاشغال الشاقة في المانيا.‏

حياة المعسكر القاسية

كان رولْوالْت يقع بين مدينتي فرانكفورت ودارمشتات ويسع نحو ٠٠٠‏,٥ سجين.‏ وكان كلُّ يوم يبدأ في الخامسة صباحا بتفقُّد السجناء بالمناداة بالاسماء،‏ الامر الذي كان يستغرق نحو ساعتين،‏ لأن الضباط كانوا يجدِّدون قائمة السجناء لديهم بتمهُّل.‏ وكان يُطلب منا ان نقف بلا حراك،‏ وقد ضُرب سجناء كثيرون بقسوة لأنهم لم يقفوا بشكل ثابت تماما.‏

كان الفطور يتألف من خبز مصنوع من الطحين،‏ النشارة،‏ والبطاطا التي غالبا ما كانت متعفنة.‏ ثم كنا نذهب الى العمل في المستنقع،‏ حافرين خنادق لتجفيف الارض لأهداف زراعية.‏ وبعد العمل طوال النهار في المستنقع من غير احذية ملائمة،‏ كانت اقدامنا تنتفخ كالاسفنج.‏ وذات مرة،‏ أُصيبت قدماي بما بدا انه الغنغرينا،‏ وخشيت ان يصير بترهما لازما.‏

في وقت الظهيرة عند موقع العمل،‏ كان يُقدَّم لنا مزيج اختباري غريب زُعم انه حساء.‏ وكان يُطيَّب باللفت او الملفوف ويحتوي احيانا على الجثث المطحونة لحيوانات مريضة.‏ وكنا نشعر وكأن افواهنا وحلوقنا تحترق،‏ وأُصيب كثيرون منا بدمامل كبيرة.‏ وفي المساء كنا نحصل على المزيد من «الحساء.‏» وفقد سجناء كثيرون اسنانهم،‏ لكنه قيل لي انه من المهم ابقاء الاسنان تعمل.‏ فكنت اعضِّض قطعة من خشب الصنوبر او اغصان البندق،‏ ولم افقد اسناني قط.‏

البقاء قويا روحيا

وفي محاولة لكسر ايماني،‏ عزلني الحراس عن ايّ اتصال بشهود آخرين.‏ وبما انني لم املك مطبوعات للكتاب المقدس،‏ كنت اتذكر الآيات التي حفظتها،‏ كالامثال ٣:‏٥،‏ ٦‏،‏ التي تحثنا على ‹الوثوق بيهوه بكل قلبنا،‏› و ١ كورنثوس ١٠:‏١٣‏،‏ التي تعد بأن يهوه لن ‹يدعنا نجرَّب فوق ما نستطيع.‏› وبمراجعة آيات كهذه في ذهني وبالاتكال على يهوه في الصلاة،‏ تقوَّيت.‏

كان بإمكاني احيانا رؤية شاهد يُنقل من معسكر آخر.‏ وإذا لم تسنح لنا فرصة للتكلم،‏ كنا نشجع واحدنا الآخر على البقاء ثابتين بإيماءة رأس او برفع قبضة اليد.‏ وكنت من حين الى آخر اتلقى رسائل من ماريا وأمي.‏ وفي احدى هذه الرسائل علمت بوفاة اخي العزيز ڠريڠور،‏ وعلمت في اخرى،‏ نحو نهاية الحرب،‏ بخبر اعدام هانس شتوسير،‏ شقيق ماريا.‏

وفي وقت لاحق،‏ نُقل الى معسكرنا سجين كان يعرف ڠريڠور عندما كانا معا في سجن مُوابِيت في برلين.‏ وعرفت منه تفاصيل ما حدث.‏ فقد حُكم على ڠريڠور بالموت بالمقصلة،‏ ولكن في محاولة لكسر استقامته،‏ مُدِّدَت فترة الانتظار المعتادة قبل الاعدام الى اربعة اشهر.‏ وخلال ذلك الوقت مورسَت عليه كل انواع الضغوط لحمله على المسايرة —‏ رُبطت يداه وقدماه بسلاسل ثقيلة،‏ ونادرا ما كان يُطعَم.‏ لكنه لم يتضعضع.‏ لقد كان امينا حتى النهاية —‏ في ١٤ آذار ١٩٤٢.‏ ومع ان الخبر احزنني،‏ فقد قواني لأبقى امينا ليهوه مهما حدث.‏

وعلى مر الوقت علمت بأن اخويَّ الاصغرَين كريستيان وڤِلِيبالْت وأختيَّ الصغريَين إيدا وآني أُخذوا الى دير يُستخدم كبيت اصلاحي في مدينة لانْداو في المانيا.‏ وقد ضُرب الصبيَّان بشدة لأنهما رفضا تأدية تحية هتلر.‏

فرص للشهادة

كان معظم الموجودين في الثكنة حيث اعيش سجناء سياسيين ومجرمين.‏ وغالبا ما كنت اقضي الامسيات اشهد لهم.‏ وكان احدهم كاهنا كاثوليكيا من كاپْفنْبرڠ يدعى يوهان لِسْت.‏ فقد سُجن لأنه كلَّم رعيته عن امور سمعها عبر الاذاعة البريطانية.‏

كان السجن صعبا جدا على يوهان لأنه لم يكن معتادا الاشغال الجسدية الشاقة.‏ وكان رجلا لطيفا،‏ وكنت اساعده على اتمام حصته من العمل لكي لا يقع في ورطة.‏ وقال انه خجل لأنه مسجون لأسباب سياسية لا بسبب التصاقه بالمبادئ المسيحية.‏ وقال:‏ «انت فعلا تتألم كمسيحي.‏» وعندما أُطلق سراحه بعد سنة تقريبا،‏ وعدني بزيارة امي وخطيبتي،‏ وقد وفى بوعده.‏

حياتي تتحسن

في اواخر السنة ١٩٤٣،‏ اتانا آمر معسكر جديد يدعى كارل شتومپْف،‏ رجل طويل وأشيب ابتدأ يحسِّن الاوضاع في معسكرنا.‏ وكان من المقرَّر ان تُدهن الڤيلّا التي له،‏ وعندما علم ان مهنتي هي الدهانة،‏ أُعطيت لي الوظيفة.‏ وكانت هذه المرةَ الاولى التي فيها يُطلب مني العمل بعيدا عن المستنقع.‏

كانت زوجة الآمر تلاقي صعوبة في فهم سبب سجني،‏ مع ان زوجها اوضح لها ان السبب هو ايماني كواحد من شهود يهوه.‏ فأشفقت عليَّ لأني كنت نحيلا جدا وأطعمتني.‏ ودبَّرت امر حصولي على وظائف اضافية لأتمكن من استعادة وزني الطبيعي.‏

وعندما استُدعي سجناء من المعسكر لكي يقاتلوا في الصفوف الامامية نحو نهاية السنة ١٩٤٣،‏ انقذتني علاقتي الجيدة بالآمر شتومپْف.‏ فقد اوضحتُ له انني افضِّل الموت على ان اصير مذنبا بسفك الدم بالاشتراك في الحرب.‏ ومع ان موقفي من جهة الحياد يجعله في مأزق حرج،‏ فقد تمكن من عدم ادراج اسمي في قائمة الذين استُدعوا.‏

آخر ايام الحرب

خلال شهري كانون الثاني وشباط من السنة ١٩٤٥،‏ شجَّعتنا الطائرات الاميركية التي كانت تطير على ارتفاع منخفض وتلقي اوراقا صغيرة ذُكر فيها ان الحرب قاربت النهاية.‏ فأعطاني الآمر شتومپْف الذي انقذ حياتي ثيابا مدنية وعرض ان تكون الڤيلّا التي له مخبأً لي.‏ وعندما غادرت المعسكر،‏ رأيت الفوضى تعمّ المكان.‏ مثلا،‏ كان هنالك اولاد بعدّتهم ولباسهم الحربي والدموع تنهمر على وجوههم يهربون من امام الاميركيين.‏ وخوفا من ان التقي ضباطا من وحدات الحماية SS يتساءلون لماذا لا احمل سلاحا،‏ قررت العودة الى المعسكر.‏

وسرعان ما احاط الجنود الاميركيون بمعسكرنا بشكل تام.‏ وفي ٢٤ آذار ١٩٤٥ استسلم المعسكر،‏ رافعا اعلاما بيضاء.‏ وكم فوجئت عندما علمت انه كان هنالك شهود آخرون في المعسكر حال الآمر شتومپْف دون اعدامهم.‏ وكم كانت فرحة التقائنا كبيرة!‏ وعندما سُجن الآمر شتومپْف،‏ اقترب كثيرون منا الى الضباط الاميركيين وشهدنا شخصيا وبواسطة الرسائل لمصلحته.‏ ولذلك أُطلق سراحه بعد ثلاثة ايام.‏

لدهشتي،‏ كنت اول الـ‍ ٠٠٠‏,٥ سجين تقريبا الذين سُمح لهم بالخروج احرارا.‏ فبعد خمس سنين من السجن،‏ شعرت كما لو انني احلم.‏ فشكرت يهوه في الصلاة ودموع الفرح تطفر من عينيَّ لأنه حفظني حيا.‏ ولم تستسلم المانيا حتى ٧ ايار ١٩٤٥،‏ اي بعد ستة اسابيع تقريبا.‏

عندما أُطلق سراحي،‏ اتصلت بسرعة بالشهود الآخرين في المنطقة.‏ ونُظِّم فريق لدرس الكتاب المقدس،‏ وخلال الاسابيع التالية،‏ قضيت ساعات كثيرة اشهد للناس في المنطقة المحيطة بالمعسكر.‏ وفي الوقت نفسه،‏ حصلت على عمل كدهَّان.‏

العودة الى البيت

في شهر تموز،‏ تمكنت من شراء دراجة نارية،‏ وبدأت حينئذ رحلتي الطويلة الى البيت.‏ واستغرقت الرحلة اياما عديدة لأنه كان قد فُجِّر الكثير من الجسور على طول الطريق.‏ وعندما وصلت اخيرا الى بلدتي سانت مارتين،‏ تابعت طريقي ورأيت ماريا تحصد الحنطة.‏ وعندما عرفتني اخيرا،‏ ركضت اليَّ.‏ ويمكنكم ان تتخيلوا اللقاء السعيد.‏ ورمت امي منجلها وركضت اليَّ.‏ والآن،‏ بعد ٤٩ سنة،‏ تبلغ امي الـ‍ ٩٦ من العمر وهي عمياء.‏ لكنَّ ذهنها لا يزال صافيا،‏ ولا تزال شاهدة امينة ليهوه.‏

تزوجنا ماريا وأنا في تشرين الاول ١٩٤٥،‏ وفي السنوات التي تلت،‏ تمتعنا بخدمة يهوه معا.‏ وبوركنا بثلاث بنات،‏ ابن،‏ وستة حفداء،‏ وجميعهم يخدمون يهوه بغيرة.‏ وقد سُررت على مرّ السنين بمساعدة اعداد كبيرة من الاشخاص على اتخاذ موقف الى جانب حق الكتاب المقدس.‏

الشجاعة للاحتمال

سئلتُ مرارا كثيرة كيف تمكنت،‏ مع اني كنت مجرد حدث،‏ من مواجهة الموت دون خوف.‏ تأكدوا ان يهوه اللّٰه يمنح القدرة على الاحتمال اذا كنتم مصممين على البقاء اولياء.‏ والاتكال عليه كاملا بواسطة الصلاة هو امر يمكن تعلُّمه بسرعة كبيرة.‏ ومعرفتي ان آخرين،‏ بمن فيهم ابي وأخي،‏ احتملوا بأمانة حتى الموت ساعدتني ايضا على البقاء وليًّا.‏

لم تكن اوروپا المكان الوحيد الذي لم ينحز فيه شعب يهوه في الحرب.‏ فأنا اتذكر انه خلال محاكمات نورمبورڠ في السنة ١٩٤٦،‏ سئل احد المسؤولين الرفيعي الشأن لدى هتلر عن اضطهاد شهود يهوه في معسكرات الاعتقال.‏ فأخرج من جيبه قُصاصة ورد فيها ان الآلاف من شهود يهوه في الولايات المتحدة أُدخلوا السجون الاميركية بسبب حيادهم خلال الحرب العالمية الثانية.‏

فعلا،‏ يتبع المسيحيون الحقيقيون مثال يسوع المسيح الذي حافظ على الاستقامة امام اللّٰه حتى الرمق الاخير.‏ وحتى هذا اليوم افكر كثيرا في الـ‍ ١٤ فردا من افراد جماعتنا الصغيرة في سانت مارتين خلال ثلاثينيات الـ‍ ١٩٠٠ الذين،‏ بدافع محبتهم للّٰه ورفيقهم الانسان،‏ رفضوا دعم حرب هتلر وقُتلوا لهذا السبب.‏ ويا للّقاء العظيم الذي سيتمّ عندما يُبعثون ليتمتعوا بالحياة الى الابد في عالم اللّٰه الجديد!‏

‏[الصورة في الصفحة ٩]‏

والدي

‏[الصورتان في الصفحتين ٨ و ٩]‏

في الاسفل وإلى اليسار:‏ الكردينال إنِتْسر يصوِّت دعما للرايخ الالماني

الى اليمين:‏ «الاعلان الرسمي» الذي فيه صرَّح الاساقفة الستة انه ‹من واجبهم الوطني التصويت للرايخ الالماني›‏

‏[مصدر الصورة]‏

UPI/Bettmann

‏[الصورة في الصفحة ١٠]‏

في السنة ١٩٣٩،‏ خطبت ماريا

‏[الصورة في الصفحة ١٣]‏

عائلتنا.‏ من اليسار الى اليمين:‏ ڠريڠور (‏قُطع رأسه)‏،‏ آني،‏ فرانز،‏ ڤِلِيبالْت،‏ إيدا،‏ ڠريڠور (‏الاب،‏ قُطع رأسه)‏،‏ باربرا (‏الام)‏،‏ وكريستيان

‏[الصورة في الصفحة ١٥]‏

مع ماريا اليوم

    المطبوعات باللغة العربية (‏١٩٧٩-‏٢٠٢٥)‏
    الخروج
    الدخول
    • العربية
    • مشاركة
    • التفضيلات
    • Copyright © 2025 Watch Tower Bible and Tract Society of Pennsylvania
    • شروط الاستخدام
    • سياسة الخصوصية
    • إعدادات الخصوصية
    • JW.ORG
    • الدخول
    مشاركة